في النّار مصونة عن النضج ، مع إيصال الألم الشديد إليها ، من غير تبديل لها؟ فالجواب : أنّه لا يسأل عما يفعل ، بل نقول : إنّه قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاما عظيمة ، من غير إدخال النّار ، مع أنه تعالى أدخلهم النّار ، فإن قيل : كيف يعذّب جلودا لم تكن في الدنيا ، ولم تعصه؟ فالجواب من وجوه :
الأوّل : أنه يعاد الجلد الأول في كلّ مرّة ، وإنّما قال غيرها ؛ لتبدل صفتها ، كما تقول : صنعت من خاتمي خاتما غيره ، فالخاتم الثّاني هو الأول ؛ إلّا أنّ الصناعة ، والصّفة تبدّلت.
الثاني : المعذّب هو الإنسان في الجلد ، لا الجلد ، بل الجلد كالشّيء الملتصق به ، الزّائد (١) على ذاته ، فإذا جدّد الجلد ، صار ذلك الجلد الجديد سببا لوصول العذاب إليه ، فالمعذب ليس إلّا العاصي ؛ يدلّ عليه قوله تعالى : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ولم يقل : ليذوق.
الثالث : قال السّدّيّ (٢) : يبدّل الجلد جلدا غيره من لحم الكافر.
الرابع : قال عبد العزيز بن يحيى (٣) : إنّ الله ـ تعالى ـ يلبس أهل النّار جلودا لا تألّم ، بل هي تؤلمهم : وهي السّرابيل فكلّما [احترق](٤) جلد بدّلهم جلدا غيره. طعن القاضي (٥) في هذا فقال : إنه ترك للظّاهر ، وأيضا السّرابيل من القطران لا توصف بالنّضج ، وإنما توصف بالاحتراق.
الخامس : يمكن أن يكون هذا استعارة عن الدّوام ، وعدم الانقطاع ؛ يقال للموصوف بالدّوام : كلّما انتهى فقد ابتدأ ، وكلّما وصل [إلى آخره](٦) فقد ابتدأ من أوله ، فكذلك قوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) يعني : أنهم كلّما ظنّوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك ، أعطيناهم قوّة جديدة من الحياة ؛ بحيث ظنّوا أنّهم الآن وجدوا ، فيكون المقصود بيان دوام العذاب.
فإن قيل : قوله : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) إنما يقال : فلان ذاق الشّيء ، إذا أدرك شيئا قليلا منه ، والله تعالى قد وصفهم بأنهم كانوا في أشدّ العذاب ، فكيف يحسن أن يذكر بعد ذلك أنّهم ذاقوا العذاب؟.
فالجواب : المقصود من ذكر الذّوق ، الإخبار بأنّ إحساسهم بذلك العذاب ، في كلّ حال ، يكون كإحساس الذّائق بالمذوق من حيث إنه لا يدخل فيه نقصان ، ولا زوال ، بسبب ذلك الاحتراق.
ثمّ قال تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً ،) فالعزيز : القادر الغالب ، والحكيم :
__________________
(١) في ب : الرابد.
(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٤٣ والرازي ١٠ / ١٠٩.
(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٤٣.
(٤) سقط في أ.
(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٠٩.
(٦) سقط في أ.