الثالث من الأوجه : أن يتعلق ب «بليغا» ، أي قولا مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ، ويستشعرون به استشعارا. قال معناه الزمخشري ، ورد عليه أبو حيان بأن هذا مذهب الكوفيين ؛ إذ فيه تقديم معمول الصّفة على الموصوف ، لو قلت : «جاء زيدا رجل يضرب» ، لم يجز عند البصريين لأنه لا يتقدم المعمول إلا حيث يجوز تقديم العامل ، والعامل هنا لا يجوز تقديمه ؛ لأن الصّفة لا تتقدّم على الموصوف ، والكوفيّون يجيزون تقديم معمول الصّفة على الموصوف ، وأمّا قول البصريّين : إنه لا يتقدّم المعمول إلا حيث يتقدّم العامل فيه بحث ؛ وذلك أنّا وجدنا هذه القاعدة منخرمة في نحو قوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى : ٩ ، ١٠] ف «اليتيم» معمول ل «تقهر» و «السائل» معمول ل «تنهر» وقد تقدّما على «لا» النّاهية ، والعامل فيهما لا يجوز تقديمه عليهما ؛ إذا المجزوم لا يتقدّم على جازمه ، فقد تقدّم المعمول حيث لا يتقدّم العامل.
وكذلك قالوا في قوله : [الطويل]
١٨١٩ ـ قنافذ هدّاجون حول بيوتهم |
|
بما كان إيّاهم عطيّة عوّدا (١) |
خرّجوا هذا البيت على أنّ في «كان» ضمير الشّأن ، و «عطيّة» مبتدأ و «عوّد» خبره حتى لا يلي «كان» معمول خبرها ، وهو غير ظرف ولا شبهه (٢) ، فلزمهم من ذلك تقديم
__________________
(١) البيت للفرزدق ينظر ديوانه (١٦٢) والدرر ١ / ٨٧ والهمع ١ / ١١٨ والأشموني ١ / ٢٣٧ والخزانة ٤ / ٧٥ والدر المصون ٢ / ٣٨٣.
(٢) معمول خبر هذه الأفعال لا يخلو : إما أن يكون ظرفا ، أو جارا ومجرورا ، أو لا.
فإن كان ظرفا أو جارا ومجرورا ، جاز باتفاق إيلاؤه الفعل ، وتقدمه على الاسم نحو : «كان عندك أو في المسجد عليّ معتكفا» والأصل : كان عليّ معتكفا عندك أو في المسجد ، فقدّم الظرف والجار والمجرور اللذان هما معمولا الخبر ، وهو «معتكفا» على الاسم الذي هو «عليّ» فوليا الفعل وهو «كان» ، وإنما جاز ذلك مع أن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي ؛ لأنهم يتسعون في الظروف والجار والمجرور ما لا يتوسعون في غيرها.
وإلى هذا أشار ابن مالك ؛ حيث قال :
ولا يلي العامل معمول الخبر |
|
إلا إذا ظرفا أتى أو حرف جر |
وأما إن كان معمول الخبر غير واحد منهما ، ففيه ثلاثة مذاهب :
الأول : مذهب جمهور البصريين : وهو منع إيلائه الفعل ، وتقديمه على الاسم مطلقا ، سواء تقدّم المعمول وحده ، نحو : «كان طعامك زيد آكلا» أو تقدم معه الخبر ، نحو : «كان طعامك آكلا زيد» ، لما في ذلك من الفصل بين الفعل ومرفوعه الذي هو الاسم بأجنبي منه.
والثاني : مذهب الفارسي ، وابن السراج من البصريين ، وابن عصفور من المتأخرين : وهو إجازة تقدمه على الاسم إن تقدم معه الخبر ، نحو (كان طعامك آكلا زيد) ؛ بحجة أن المعمول من كمال العامل الذي هو الخبر ، فلم يكن ثم فاصل بين العامل ومرفوعه بأجنبي ، ومنعه إن تقدم وحده ، نحو : (كان طعامك زيد آكلا) لما سبق عن البصريين ، ويفهم من هذا ، أنه لو تقدم معه الخبر وتقدم الخبر عليه ، نحو : (كان آكلا طعامك زيد) جاز ، وهو كذلك إجماعا. ـ