ومنها : أن العاميّ يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث.
ومنها : أن النّبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان مكلّفا باستنباط الأحكام ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أمر بالرّدّ إلى أولي الأمر ، ثم قال : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ولم يخصّص أولي الأمر دون الرّسول ، وذلك يوجب أنّ الرّسول وأولي الأمر كلهم مكلّفون بالاستنباط.
فإن قيل : لا نسلّم أن المراد ب (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أولي الأمر ، لكن هذه الآية إنّما نزلت في بيان الوقائع المتعلّقة بالحروب والجهاد ، فهب أن الرّجوع إلى الاستنباط جائز فيها ، فلم قلتم بجوازه في الوقائع الشّرعيّة ؛ فإن قيس (١) أحد البابين على الآخر ، كان ذلك إثباتا للقياس الشّرعيّ بالقياس ، وأنّه لا يجوز أن الاستنباط في الأحكام الشّرعيّة داخل تحت الآية فلمّا قلتم يلزم أن يكون القياس حجّة ، فإنّه يمكن أن يكون المراد بالاستنباط : استخراج الأحكام من النّصوص الخفيّة ، أو من تركيبات النّصوص ، أو المراد منه استخراج الأحكام من البراءة الأصليّة ، أو مما ثبت بحكم العقل ، كما يقول الأكثرون إن الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضارّ الحرمة.
سلمنا أنّ القياس الشّرعي داخل في الآية ، لكن بشرط أن يكون القياس مفيدا للعلم ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). فاعتبر حصول العلم من هذا الاستنباط ، ولا نزاع في مثل هذا القياس ، إنما النّزاع في القياس الّذي يفيد الظّنّ : هل هو حجّة في الشرع ، أم لا.
والجواب : أمّا الأوّل فلا يصح ؛ لأنّه يصير التقدير : ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي
الأمر منهم لعلموه ، وعطف المظهر على المضمر ، وهو قوله : (وَلَوْ رَدُّوهُ) قبيح مستكره.
وأما الثّاني فمدفوع من وجهين :
أحدهما : أن قوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) حاصل في كل ما يتعلّق بباب التّكليف ، فليس في الآية ما يوجب تخصيصها بأمر الحروب.
وثانيها : هب أن الأمر كما ذكرتم ، لكن لمّا ثبت تعرّف أحكام الحروب بالقياس الشّرعيّ ، وجب أن يتمسّك بالقياس الشّرعيّ في سائر الوقائع ، لأنه لا قائل بالفرق.
وأما الثّالث : وهو حمل الاستنباط على استخراج النّصوص الخفيّة أو على تركيبات النّصوص ، فكلّ ذلك لا يخرجه عن كونه منصوصا ، والتّمسّك بالنّصّ لا يسمّى استنباطا.
وأما قوله : لا يجوز حمله على التمسّك بالبراءة الأصليّة.
__________________
(١) في أ : قستم.