الثاني : أن أمة موسى كانوا إذا أرادوا التقرّب إلى الله تعالى بأموالهم ، كانت تجيء نار من السّماء فتحرقها ، فلما طلب النبيّ صلىاللهعليهوسلم منهم بذل المال في سبيل الله قالوا له : لو كنت نبيا لما طلبت الأموال لهذا الغرض ؛ فإنه ـ تعالى ـ ليس بفقير حتّى يحتاج ـ في إصلاح دينه ـ إلى أموالنا ، فلو كان يطلب أموالنا لجاءت نار من السماء فتحرقها ، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لست بنبيّ.
قوله : (قالُوا إِنَ) العامل في «إنّ» هو «قالوا» ف «إنّ» وما في حيّزها منصوب المحل ب «قالوا» لا بالقول ، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني بين المصدر ، وهو «قول» وبين الفعل وهو «قالوا» تنازعا في «إنّ» وما في حيّزها ، قال : «ويجوز أن يكون معمولا ل «قول» المضاف ؛ لأنه مصدر ، وهذا يخرّج على قول الكوفيين في إعمال الأول ، وهو قول ضعيف ، ويزداد هنا ضعفا بأنّ الثاني فعل ، والأول مصدر ، وإعمال الفعل أقوى».
وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع ، وإنما الضعف عنده من جهة إعمال الأول ، فلو قدّرنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده ، لكنه يمنع من ذلك مانع آخر ، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ، ولا يجوز حذفه ، وهو ـ هنا ـ غير مذكور ، فدلّ على أنها ليست عنده من التنازع إلا على قول الكوفيين ، وهو ضعيف كما ذكر.
وانظر كيف أكّدوا الجملة المشتملة على ما أسندوه إليه ـ تعالى ـ وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف.
فصل
قال الحسن ومجاهد : لما نزل قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً)(١) [البقرة: ٢٤]. قالت اليهود : إنّ الله فقير يستقرض منا ، ونحن أغنياء. وذكر الحسن أنّ قائل هذه المقالة هو حييّ بن أخطب.
وقال عكرمة والسدّيّ ومقاتل ومحمد بن إسحاق : كتب النبي صلىاللهعليهوسلم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع ؛ يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى إقام الصلاة ، وإيتاء الزّكاة ، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا ، فدخل أبو بكر ـ ذات يوم ـ بيت مدراسهم ، فوجد كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم ، يقال له : فنحاص بن عازوراء ، وكان من علمائهم ، ومعه حبر آخر ، يقال له : أشيع ، فقال أبو بكر لفنحاص : اتّق الله وأسلم ؛ فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ، فآمن وصدّق ، وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنّة ، ويضاعف لك الثّواب ،
__________________
(١) تقدم.