فالجواب : قال القاضي : الظّاهر في ذلك أنّه تعريف لعباده مدّة خلقه لهما ، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفا إلّا والمدّة هذه الأيّام المعلومة ، ويمكن أن يقال : لمّا وقع التعريف في الأيّام المذكورة في التوراة والإنجيل ، وكان المذكور هناك أيّام الآخرة لا أيّام الدنيا ، لم يكن ذلك قادحا في صحّة التعريف بها.
فإن قيل : هذه الأيام إنما تعد بطلوع الشمس وغروبها ، وهذا المعنى مفقود قبل خلقها ، فكيف يعقل هذا التعريف؟.
فالجواب : التعريف يحصل بما أنّه لو وقع حدوث السموات والأرض في مدّة ، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر ، لكانت تلك المدّة مساوية لستّة أيّام.
فإن قيل : هذا يقتضي حصول مدّة قبل خلق العالم ، يحصل فيها حدوث العالم ، وذلك يوجب قدم المدّة.
فالجواب : أن تلك المدّة غير موجودة ، بل هي مفروضة موهومة ، لأنّ تلك المدّة المعينة حادثة ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدّة أخرى ، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال ، فكلّ ما يقولونه في حدوث المدّة ، فنحن نقوله في حدوث العالم.
فإن قيل : اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته ، وقد يراد به النّهار وحده ، فما المراد بهذه الآية؟ فالجواب : أنّ الغالب في اللّغة هو اليوم بليلته.
قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قال ابن الخطيب : لا يمكن حمل الآية على ظاهرها ، لأنّ الاستواء على العرش معناه كونه مستقرّا عليه ، بحيث إنّه لو لا العرش لسقط ونزل ، وإثبات هذا المعنى يقتضي كونه تعالى محتاجا إلى العرش ، وإنه لو لا العرش لسقط ونزل ، وذلك محال ، لإجماع المسلمين على أنّه تعالى هو الممسك له والحافظ له ، وأيضا فإن قوله : (ثُمَّ اسْتَوى) يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستويا عليه ، وذلك يدلّ على أنّه تعالى يتغيّر من حال إلى حال ، وكل متغير محدث ، وذلك باطل بالاتّفاق. وأيضا : لمّا حدث الاستواء في هذا الوقت دلّ على أنّه تعالى كان قبل هذا الوقت مضطربا متحرّكا ، وذلك من صفات المحدثات. وأيضا ظاهر الآية يدلّ على أنه تعالى إنّما استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض ؛ لأنّ كلمة «ثمّ» للتّراخي ، وذلك يدلّ على أنّه تعالى كان قبل العرش غنيّا عن العرش ، فلمّا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من الاستغناء إلى الحاجة ، فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيّا عن العرش ، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرّا على العرش ، فثبت بهذه الوجوه أنّه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها ، وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة ، وإذا تقرّر هذا ، فقال جمهور المفسّرين : المراد بالعرش هنا : هو الجسم العظيم الذي في السّماء ، وهو مخلوق قبل خلق السموات والأرض ، بدليل قوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧].