فإن قيل : الضمير في «جاءتها» يعود على الفلك ، وهو ضمير الواحد ، والضمير في قوله : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) عائد على الفلك ، وهو ضمير الجمع ، فما السبب فيه؟.
فالجواب من وجهين :
الأول : لا نسلّم أن الضمير في «جاءتها» ، عائد إلى الفلك ، بل يعود على الرّيح الطيّبة.
الثاني : لو سلّمنا ذلك ، إلّا أنّ لفظ الفلك يصلح للواحد والجمع. ثم قال : (وَجاءَهُمُ) أي : ركّاب السفينة (الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) وهو حركة الماء واختلاطه ، وقيل : الموج ما ارتفع من الماء فوق البحر ، (وَظَنُّوا) : أيقنوا (أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي : ظنّوا القرب من الهلاك ، وأصله : أنّ العدوّ إذا أحاط بقوم أو بلد ، فقد دنوا من الهلاك ، (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : أخلصوا لله في الدعاء ، ولم يدعوا أحدا سواه ، قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد: ترك الشرك ، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئا (١) ، وقال الحسن ـ رحمهالله ـ : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ) ؛ جاريا مجرى الإيمان الاضطراري» (٢) ، وقال ابن زيد : «هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا جاء الضّرّ والبلاء لم يدعوا إلّا الله» (٣) وعن أبي عبيدة : أنّ المراد من ذلك الدعاء قولهم : أهيا شر هيا ، أي : يا حيّ يا قيّوم (٤) ، وقالوا : لئن أنجيتنا يا رب من هذه الريح العاصف ، أو من هذه الأمواج ، أو من هذه الشدائد ، وهذه الألفاظ ، وإن لم يسبق ذكرها ؛ إلّا أنه سبق ما يدلّ عليها ، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك بالإيمان والطّاعة.
واعلم : أنّه يمكن أن يقدّر في الآية إضمار ، تقديره : دعوا الله مخلصين له الدّين ، مريدين أن يقولوا : لئن أنجيتنا ، ويمكن أن يقال : لا حاجة إلى الإضمار ؛ لأنّ قوله : (دَعَوُا اللهَ) يصير مفسّرا بقوله : (أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) فهم في الحقيقة ، ما قالوا إلّا هذا القول.
ولمّا حكى عنهم التّضرع الكامل ، ذكر أنّهم بعد الخلاص من تلك البليّة ، أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحقّ ، قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد : بالفساد والتّكذيب والجرأة على الله ـ عزوجل ـ.
قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : وباله راجع إليها ، وقيل : المراد: بغي بعضكم على بعض ، كقوله : (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٦٦] ، (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] ، (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] والمعنى : أنّ بغي بعضهم على
__________________
(١) انظر المصدر السابق.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٥).
(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٥٤) وعزاه إلى أبي الشيخ عن مكحول.