وخامسها : لعلّه ـ تعالى ـ إنّما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد ؛ لأنّا نرى الزّرع الذي انتهى إلى الغاية في الحسن ، ثمّ إنّ ذلك الحسن يزول بالكلّيّة ، ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى ، فذكر ـ تعالى ـ هذا المثال ؛ ليدلّ على أنّ من قدر على ذلك ، كان قادرا على إعادة الأحياء في الآخرة ؛ ليجازيهم على أعمالهم.
قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) الآية.
لمّا نفّر العقلاء عن الميل إلى الدّنيا ، رغّبهم في الاخرة بهذه الآية ، قال قتادة : «السّلام هو الله ، وداره الجنّة» (١).
وسمّي الله ـ تعالى ـ بالسّلام لوجوه :
أحدها : أنّه لمّا كان واجب الوجود لذاته ، فقد سلم من الفناء والتّغيير ، وسلم في ذاته وصفاته من الافتقار إلى الغير ، وهذه الصّفة ليست إلّا له ـ سبحانه.
وثانيها : وصف بالسلام ، أي : أنّ الخلق سلموا من ظلمه ؛ ولأنّ كل ما سواه فهو ملكه وملكه ، وتصرّف المالك في ملك نفسه لا يكون ظلما.
وثالثها : قال المبرّد : «وصف بالسلام ، أي : لا يقدر على السّلام إلّا هو ، والسّلام : عبارة عن تخليص العاجزين عن الآفات ، وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين» وعلى هذا التقدير : السّلام مصدر «سلم».
وقيل : سمّيت الجنّة دار السّلام ؛ لأنّ من دخلها سلم من الآفات ، وقيل : المراد بالسّلام : التّحية ؛ لأنّه ـ تعالى ـ يسلّم على أهلها ، قال ـ تعالى ـ : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] ، والملائكة يسلّمون عليهم أيضا ، قال ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] ، وهم يحيّون بعضهم بعضا بالسّلام ، قال ـ تعالى ـ : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس : ١٠].
وروى جابر ، قال : «جاءت ملائكة إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم وهو نائم ، فقالوا : إنّ لصاحبكم هذا مثلا ، مثله كمثل رجل بنى دارا ، وجعل فيها مأدبة ، وبعث داعيا فمن أجاب الدّاعي ، دخل الدّار ، وأكل من المأدبة ، ومن لم يجب الدّاعي ، لم يدخل الدّار ، ولم يأكل من المأدبة ، فالدّار الجنّة ، والدّاعي محمّد ، فمن أطاع محمدا ، فقد أطاع الله ، ومن عصى محمدا ، فقد عصى الله»(٢).
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٨) عن قتادة وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٥٠).
وورد مثله عن ابن عباس ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٥) وعزاه إلى أبي نعيم والدمياطي في «معجمه» من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه بلفظ ..... والله السّلام والجنة داره.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٩) والحاكم (٢ / ٣٣٩) من حديث جابر وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.