قوله تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) الآية.
في «هنالك» وجهان :
أظهرهما : بقاؤه على أصله ، من دلالته على ظرف المكان ، أي : في ذلك الموقف الدّحض ، والمكان الدّهش. وقيل : هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة ، ومثله (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) [الأحزاب : ١١] ، أي : في ذلك الوقت ؛ وكقوله : [الكامل]
٢٨٩٩ ـ وإذا الأمور تعاظمت وتشاكلت |
|
فهناك يعترفون أين المفزع (١) |
وإذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه ، فهو أولى.
وقرأ الأخوان (٢) «تتلو» بتاءين منقوطتين من فوق ، أي : تطلب وتتبع ما أسلفته من أعمالها ، ومن هذا قوله : [الرجز]
٢٩٠٠ ـ إنّ المريب يتبع المريبا |
|
كما رأيت الذّيب يتلو الذّيبا (٣) |
أي : يتبعه ويتطلّبه ، ويجوز أن يكون من التلاوة المتعارفة ، أي : تقرأ كلّ نفس ما عملته مسطّرا في صحف الحفظة ، لقوله ـ تعالى ـ : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] ، وقوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ) [الإسراء : ١٣].
وقرأ الباقون : «تبلو» من البلاء ، وهو الاختبار ، أي : يعرف عملها : أخير هو أم شر ، وقرأ عاصم في رواية «نبلو» (٤) بالنّون والباء الموحّدة ، أي : نختبر نحن ، و «كلّ» منصوب على المفعول به ، وقوله (ما أَسْلَفَتْ) على هذا القراءة يحتمل أن يكون في محلّ نصب ، على إسقاط الخافض ، أي : بما أسلفت ، فلمّا سقط الخافض ، انتصب مجروره ؛ كقوله : [الوافر]
٢٩٠١ ـ تمرّون الدّيار فلم تعوجوا |
|
كلامكم عليّ إذن حرام (٥) |
ويحتمل أن يكون منصوبا على البدل من (كُلُّ نَفْسٍ) ويكون من بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون «نبلو» من البلاء ، وهو العذاب. أي : نعذّبها بسبب ما أسلفت ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف على التقدير الأول ، والآخر دون الثاني على المشهور.
__________________
(١) تقدم.
(٢) ينظر : السبعة ص (٣٢٥) ، الحجة ٤ / ٢٧١ ، حجة القراءات ص (٣٣١) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٧ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠٨ ـ ١٠٩.
(٣) ينظر البيتان في البحر المحيط ٥ / ١٥٥ ، القرطبي ٨ / ٢١٣ ، والدر المصون ٤ / ٢٨.
(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٥٥ ، الدر المصون ٤ / ٢٩.
(٥) تقدم.