فإن قيل : كيف يصحّ هذا مع ما يعلمه من أحوال الفترة؟.
فالجواب : أنّ الدّليل الذي ذكرناه ، لا يوجب أن يكون الرّسول حاضرا مع القوم ؛ لأنّ تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسولا إليهم ، كما لا يمنع تقدّم رسولنا ، من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد.
وفي الكلام إضمار تقديره : فإذا جاء رسولهم وبلّغ ، وكذّبه قوم وصدقه آخرون ، قضي بينهم ، أي : حكم وفصل.
والمراد من الآية :
إمّا بيان : أنّ الرسول إذا بعث إلى كلّ أمّة ، فإنّه بالتبليغ ، وإقامة الحجّة يزيح عللهم ، ولم يبق لهم عذر ؛ فيكون ما يعذّبون به في الآخرة عدلا لا ظلما ، ويدلّ عليه قوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ، وقوله : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥].
وإمّا أن يكون المراد : أنّ القوم إذا اجتمعوا في الآخرة ، جمع الله بينهم وبين رسلهم وقت المحاسبة ، وبيان الفصل بين المطيع والعاصي ؛ ليشهد عليهم بما شاهد منهم ؛ وليقع منهم الاعتراف بأنّه بلغ رسالات ربّه ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٦٥].
قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) الآية.
هذه شبهة خامسة من شبهات منكري النبوة ؛ فإنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كلّما هدّدهم بنزول العذاب ، ومرّ زمان ولم يظهر ذلك العذاب ، قالوا : متى هذا الوعد ، فاحتجّوا بعدم ظهوره ، على القدح في نبوته ، واعلم : أنّهم قالوا ذلك على وجه التّكذيب للرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لمّا أخبرهم بنزول العذاب على الأعداء ، وينصرة الأولياء ـ أو على وجه الاستبعاد ، وتدلّ الآية على أنّ كلّ أمّة قالت لرسولها مثل ذلك القول ؛ بدليل قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأنّه جمع ، وهو موافق لقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ).
ثم إنّه ـ تعالى ـ أمره بأن يجيب عن هذه الشّبهة بجواب يحسم المادّة ، وهو قوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) والمعنى : أنّ إنزال العذاب على الأعداء ، وإظهار النّصرة للأولياء لا يقدر عليه إلّا الله ـ سبحانه ـ ، وأنّه ـ تعالى ـ ما عيّن لذلك وقتا معينا ، بل تعيين الوقت مفوّض إلى الله ـ سبحانه ـ بحسب مشيئته.
قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فيه وجهان :
أحدهما : أنّه استثناء متّصل ، تقديره : إلّا ما شاء الله أن أملكه ، وأقدر عليه.
والثاني : أنّه منقطع ، قال الزمخشري : «هو استثناء منقطع ، أي : ولكن ما شاء الله