فهذا الحكم تقولونه افتراء على الله ، أم تعلمون أنّه حكم حكم الله به» (١) ؛ والأول باطل بالاتّفاق ، فلم يبق إلّا الثّاني ، ومن المعلوم أنّه ـ تعالى ـ ما خاطبكم به من غير واسطة ، ولمّا بطل هذا ، ثبت أنّ هذه الأحكام إنّما وصلت إليكم بقول رسول أرسله الله إليكم ، ونبيّ بعثه الله إليكم ، وذلك يدلّ على اعترافكم بصحّة النبوة والرّسالة ، فكيف تبالغوا هذه المبالغات العظيمة في إنكار النبوة؟.
الوجه الثاني : أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لمّا ذكر الدّلائل الكثيرة على صحّة نبوّة نفسه ، وبيّن فساد سؤالاتهم ، وشبهاتهم في إنكارها ، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم ، وبيّن أنّ التمييز بين هذه الأشياء بالحلّ والحرمة ، مع أنّه لم يشهد بذلك لا عقل ولا نقل ، فدل على أنّه طريق باطل ، وأنّهم ليسوا على شيء.
قوله : «أرأيتم» : هذه بمعنى : «أخبروني». وقوله : (ما أَنْزَلَ) يجوز أن تكون «ما» موصولة بمعنى : «الّذي» ، والعائد محذوف ، أي : ما أنزله ، وهي في محلّ نصب مفعولا أولا ، والثاني هو الجملة من قوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ)؟ والعائد من هذه الجملة على المفعول الأول محذوف ، تقديره : آلله أذن لكم فيه ؛ واعترض على هذا : بأنّ قوله «قل» يمنع من وقوع الجملة بعده مفعولا ثانيا.
وأجيب عنه : بأنّه كرّر توكيدا ، ويجوز أن تكون «ما» استفهاميّة منصوبة المحلّ ب «أنزل» وهي حينئذ معلّقة ل «أرأيتم» وإلى هذا ذهب الحوفيّ ، والزمخشريّ ، ويجوز أن تكون «ما» الاستفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، والجملة من قوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) خبره ، والعائد محذوف كما تقدّم ، أي : أذن لكم فيه ، وهذه الجملة الاستفهامية معلّقة ل «أرأيتم» ، والظاهر من هذه الأوجه هو الأول ؛ لأنّ فيه إبقاءا ل «أرأيت» على بابها من تعدّيها إلى اثنين ، وأنّها مؤثّرة في أولهما بخلاف جعل «ما» استفهامية ، فإنّها معلّقة ل «أرأيت» وسادّة مسدّ المفعولين.
قوله : (مِنْ رِزْقٍ) : يجوز أن يكون حالا من الموصول ، وأن تكون «من» : لبيان الجنس ، و «أنزل» على بابها ، وهو على حذف مضاف ، أي : أنزله من سبب رزق وهو المطر ، وقيل : تجوّز بالإنزال علن الخلق ، كقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥] (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) [الزمر : ٦].
قوله : (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) في «أم» هذه وجهان :
أحدهما : أنها متصلة عاطفة ، تقديره : أخبروني : آلله أذن لكم في التحليل والتحريم ، فإنكم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه.
والثاني : أن تكون منقطعة.
__________________
(١) ذكره بهذا اللفظ الرازي في «تفسيره» (١٧ / ٩٦).