وقال أبو البقاء (١) : لأن يقولوا أي : لأن قالوا ، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه ، وكيف يدّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصّ في الاستقبال وهو الناصب؟.
و «لو لا» تحضيضية ، وجملة التّحضيض منصوبة بالقول.
فصل
المعنى : فلعلّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ، فلا تبلغة إيّاهم ، وذلك أن كفار مكة قالوا : ائت بقرآن غير هذا ، ليس فيه سب آلهتنا ، فهمّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم ـ أن يدع آلهتهم ظاهرا ؛ فأنزل الله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) يعنى سب الآلهة : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي : ولعلّ يضيق صدرك (أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يصدّقه ، قاله عبد الله بن أميّة المخزومي.
وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رؤساء مكّة قالوا : يا محمد : اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا ، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك ، فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية (٢).
وأجمع المسلمون على أنّه لا يجوز على الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أن يخون في الوحي والتبليغ ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه ؛ لأنّ تجويزه يؤدّي إلى الشّك في كل الشرائع وذلك يقدح في النبوة ، وأيضا فالمقصود من الرّسالة تبليغ التكاليف ، والأحكام ، فإذا لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها.
وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المراد من قوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) شيئا آخر سوى أنه فعل ذلك. وذكروا فيها وجوها أخر ، قيل : إنّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به ، فكان يضيق صدر الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فأهله الله لأداء الرّسالة ، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة ، وترك الالتفات إلى استهزائهم ، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم ، وإن لم يؤد ذلك وقع في ترك وحي الله ـ تعالى ـ وفي إيقاع الخيانة ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضّررين ؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وحي الله ، والغرض من ذكر هذا الكلام : التنبيه على هذه الدقيقة ؛ لأنّ الإنسان إذا علم أنّ كلّ واحد من طرفي الفعل والترك مشتمل على ضرر عظيم ، على أنّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف.
فإن قيل : الكنز كيف ينزل؟.
فالجواب : أنّ المراد ما يكنز ، وجرت العادة على أنّ المال الكثير يسمّى كنزا ، فقال القوم: إن كنت صادقا في أنّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلّ شيء وأنك عزيز
__________________
(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٣٥.
(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٧ / ١٥٤).