فأمّا الفتح فعلى إضمار حرف الجرّ ، أي : «بأنّي لكم».
قال الفارسيّ : في قراءة الفتح خروج من الغيبة إلى المخاطبة.
قال ابن عطية : وفي هذا نظر ، وإنّما هي حكاية مخاطبته لقومه ، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة ، ولو كان الكلام أن أنذرهم ونحوه لصحّ ذلك.
وقد قال بهذه المقالة ـ أعني الالتفات ـ مكي ـ فإنّه قال : الأصل : بأنّي ، والجارّ والمجرور في موضع المفعول الثاني ، وكان الأصل : أنّه ، لكنّه جاء على طريق الالتفات.
ولكن هذا الالتفات غير الذي ذكره أبو علي ، فإنّ ذلك من غيبة إلى خطاب ، وهذا من غيبة إلى تكلم وكلاهما غير محتاج إليه ، وإن كان قول مكي أقرب.
وقال الزمخشري (١) : الجارّ والمجرور صلة لحال محذوفة ، والمعنى : أرسلناه ملتبسا بهذا الكلام ، وهو قوله : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) بالكسر ، فلمّا اتصل بها الجارّ فتح كما فتح في «كأنّ» والمعنى على الكسر في قولك «إنّ زيدا كالأسد» ، وأمّا الكسر ، فعلى إضمار القول ، أي : فقال ، وكثيرا ما يضمر ، وهو غني عن الشّواهد.
و «النذير» قيل : المراد به كونه مهددا للعصاة بالعقاب ، ومن المبين كونه مبينا ما أعد الله للمطيعين من الثّواب ، وأنه يبين ذلك الإنذار على أكمل طرقه ، ثم بيّن تعالى أنّ ذلك الإنذار إنما هو بنهيهم عن عبادة غير الله ، والأمر بعبادته ـ جل ذكره ـ ؛ لأنّ قوله (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) استثناء من النّهي ، فهو يوجب نفي غير المستثنى ، وإيجاب المستثنى.
قوله (أَنْ لا تَعْبُدُوا) كقوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا) في أول السورة ، ونزيد هنا شيئا آخر ، وهو أنّها على قراءة من فتح «أني» تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون بدلا من قوله : (إِنِّي لَكُمْ) ، أي : أرسلناه بأن لا تعبدوا.
والثاني : أن تكون مفسّرة ، والمفسّر بها : إمّا «أرسلناه» وإما «نذير».
وأمّا على قراءة من كسر فيجوز أن تكون المصدرية وهي معمولة ل «أرسلنا» ويجوز أن تكون المفسرة بحاليها.
قوله : «أليم» إسناد الألم إلى اليوم مجاز لوقوعه فيه لا به.
وقال الزمخشريّ : فإذا وصف به العذاب قلت : مجاز مثله ؛ لأنّ الأليم في الحقيقة هو المعذّب ، ونظيرها قولك نهارك صائم.
قال أبو حيّان (٢) : «وهذا على أن يكون «أليم» صفة مبالغة من : «ألم» وهو من كثر ألمه ، وإن كان «أليم» بمعنى : «مؤلم» فنسبته لليوم مجاز وللعذاب حقيقة».
__________________
(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٨٧.
(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢١٥.