ثم قال : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، أي : يضلكم ، قوله : (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ، إِنْ كانَ) قد تقدّم حكم توالي الشرطين ، وأن ثانيهما قيد في الأوّل ، وأنه لا بد من سبقه للأوّل ، وقال الزمخشريّ هنا : (إِنْ كانَ اللهُ) جزاؤه ما دل عليه قوله : (لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي).
وهذا الدليل في حكم ما دلّ عليه ؛ فوصل بشرط ، كما وصل الجزاء بالشّرط في قوله : «إن أحسنت إلي أحسنت إن أمكنني».
وقال أبو البقاء (١) : حكم الشّرط إذا دخل على الشّرط أن يكون الشّرط الثّاني والجواب جوابا للشّرط الأول نحو : «إن أتيتني إن كلمتني أكرمتك» فقولك : «إن كلمتني أكرمتك» جوا ب «إن أتيتني» جميع ما بعده ، وإذا كان كذلك كان الشّرط الأول في الذّكر مؤخّرا في المعنى ، حتّى إن أتاه ثم كلّمه لم يجب الإكرام ، ولكن إن كلّمه ثمّ أتاه وجب الإكرام ، وعلّة ذلك أنّ الجواب صار معوّقا بالشّرط الثاني ، وقد جاء في القرآن منه (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُ) [الأحزاب : ٥٠].
قال شهاب الدّين (٢) : أما قوله : «إن وهبت .. إن أراد» فظاهره ـ وظاهر القصة المرويّة ـ يدلّ على عدم اشتراط تقدّم الشّرط الثاني على الأوّل ، وذلك أنّ إرادته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ للنكاح إنما هو مرتّب على هبة المرأة نفسها له وكذا الواقع في القصّة ، لمّا وهبت أراد نكاحها ، ولم يرو أنه أراد نكاحها ، فوهبت ، وهو يحتاج إلى جواب ، وسيأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ في موضعه.
وقال ابن عطيّة (٣) هنا وليس نصحي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا أراد الله ـ تعالى ـ بكم الإغواء ، والشرط الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين ، وأنّ إرادة البشر غير مغنية ، وتعلّق هذا الشرط هو ب «نصحي» وتعلّق الآخر ب «لا ينفع».
وتلخص من ذلك أنّ الشرط مدلول على جوابه بقوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ) لأنّه عقبه ، وجواب الثاني أيضا ما دلّ على جواب الأول وكأنّ التقدير : وإن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي. وهو من حيث المعنى كالشّرط إذا كان بالفاء نحو : إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم ، فلا ينفعكم نصحي.
وقرأ الجمهور : «نصحي» بضم النون ، وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : المصدرية كالشّكر والكفر والثاني : أنه اسم لا مصدر.
وقرأ عيسى (٤) بن عمر «نصحي» بفتح النّون ، وهو مصدر فقط.
__________________
(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٣٨.
(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٩٦.
(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٦٧.
(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢١٩ ، والدر المصون ٤ / ٠٦.