أحدها : أنه يقتضي أن يكون لله أعين كثيرة ، وهذا يناقض قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩].
وثانيها : أنّه يقتضي أن يصنع الفلك بتلك الأعين ، كقولك : قطعت بالسكين ، وكتبت بالقلم ، ومعلوم أن ذلك باطل.
وثالثها : أنّه ـ تعالى ـ منزّه عن الأعضاء ، والأبعاض ؛ فوجب المصير إلى التأويل ، وهو من وجوه :
الأول : معنى «بأعيننا» أي : بنزول الملك ؛ فيعرفه بخبر السفينة ، يقال : فلان عين فلان أي : ناظر عليه.
والثاني : أنّ من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه ؛ فلمّا كان وضع العين على الشّيء سببا لمبالغة الحفظ جعل العين كناية عن الاحتفاظ ، فلهذا قال المفسّرون : معناه : بحفظنا إيّاك حفظ من يراك ، ويملك دفع السّوء عنك.
وحاصل الكلام أن عمل السّفينة مشروط بأمرين :
أحدهما : أن لا يمنعه أعداؤه من ذلك العمل.
والثاني : أن يكون عالما بكيفيّة تأليف السّفينة وتركيبها.
وقوله : (وَوَحْيِنا) إشارة إلى أنّه تعالى يوحي إليه كيفية عمل السّفينة.
وقوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) فقيل : لا تطلب منّي تأخير العذاب عنهم ، فإنّي قد حكمت عليهم بهذا الحكم ، فلمّا علم نوح ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦]. وقيل : (لا تُخاطِبْنِي) في تعجيل العذاب فإنّي لمّا قضيت عليهم إنزال العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعا.
وقيل : المراد ب (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ابنه وامرأته.
قوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) قيل : هذا حكاية حال ماضيه أي : في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. وقيل : التقدير : وأقبل يصنع الفلك ، فاقتصر على قوله : «يصنع». قيل : إن جبريل أتى نوحا عليهالسلام فقال : إنّ ربّك يأمرك أن تصنع الفلك ، فقال : كيف أصنع ولست بنجّار؟ فقال : إنّ ربّك يقول : اصنع فإنّك بعيني ، فأخذ القدوم ، وجعل يصنع ولا يخطىء. وقيل : أوحى الله إليه يجعلها مثل جؤجؤ الطّائر.
روي أنّ نوحا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لمّا دعا على قومه وقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] استجاب الله دعاءه وأمره أن يغرس شجرة ليعمل منها السفينة ؛ فغرسها وانتظرها مائة سنة ، ثم نجّرها في مائة سنة أخرى.
وقيل : في أربعين سنة ، وكانت من خشب الساج. وفي التوراة أنها من الصنوبر.
قال البغويّ ـ رحمهالله ـ أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعا ، وعرضها خمسين