ثم إنّه تعالى حكى عنه أنه كان يقول : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) أي : مثل سخريتكم إذا غرقتم في الدنيا ووقعتم في العذاب يوم القيامة. وقيل : إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنّا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر ، والتّعرض لسخط الله وعذابه ، فأنتم أولى بالسّخرية منّا.
فإن قيل : كيف تجوز السخرية من النبي؟.
فالجواب : هذا ازدواج للكلام يعنى : إن تستجهلوني فإنّي أستجهلكم إذا نزل بكم العذاب.
وقيل : معناه : إن تسخروا منّا فسترون عاقبة سخريتكم.
وقيل : سمى المقابلة سخرية كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠].
قوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ).
في «من» وجهان :
أحدهما : أن تكون موصولة.
والثاني : أن تكون استفهاميّة ، وعلى كلا التقديرين ف «تعلمون» إمّا من باب اليقين ، فتتعدّى لاثنين ، وإمّا من باب العرفان فتتعدّى لواحد. فإذا كانت هذه عرفانية و «من» استفهامية كانت «من» ، وما بعدها سادّة مسدّ مفعول واحد ، وإن كانت متعدية لاثنين كانت سادّة مسدّ المفعولين وإذا كانت «تعلمون» متعدية لاثنين ، و «من» موصولة كانت في موضع المفعول الأوّل ، والثاني محذوف قال ابن عطيّة : «وجائز أن تكون المتعدية إلى مفعولين ، واقتصر على الواحد».
وهذه العبارة ليست جيّدة ؛ لأنّ الاقتصار في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز ، لما تقرّر من أنّهما مبتدأ وخبر في الأصل ، وأمّا حذف الاختصار ، فهو ممتنع أيضا ، إذ لا دليل على ذلك. وإن كانت متعدّية لواحد و «من» موصولة فأمرها واضح.
قوله : (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) أي : يجب عليه ، وينزل به (عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم. وحكى الزهراويّ ـ رضي الله عنه ـ : (وَيَحِلُّ) بضمّ الحاء ، بمعنى يجب أيضا.
قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) عذابنا ، أو وقته ، أو قولنا «كن».
(وَفارَ التَّنُّورُ) اختلفوا في التّنور : قال عكرمة والزهري : هو وجه الأرض (١) ، أي نبعت الأرض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التي هي محال النار وذلك أنّه قيل لنوح : إذ رأيت الماء قد فار على وجه الأرض ، فاركب السّفينة أنت وأصحابك.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٨ ـ ٣٩) عن ابن عباس وعكرمة والضحاك.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٩٦) عن عكرمة وعزاه إلى أبي الشيخ وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٨٣).