قال ابن الخطيب (١) : «والأقرب عندي أن يقال : لعلّه ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التّشريف ، ثم إنّ القوم لأجل عداوة اليهود ؛ ولأجل أن يقاتلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطّرف الثاني ، فبالغوا وفسّروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية ، والجهال قبلوا ذلك ، وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى ، والله أعلم بحقيقة الحال».
قوله : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) واعلم أنّ كلّ قول إنّما يقال بالفم ، فما معنى تخصيصهم بهذه الصفة؟ والجواب من وجوه :
أحدها : أنّ معناه قول لا يعضده برهان ، وإنّما هو لفظ يفوهون به فارغ من معنى معتبر لحقه ؛ لأن إثبات الولد للإله مع أنه منزّه عن الحاجة والشهوة ، والمضاجعة ، والمباضعة قول باطل ، ليس له تأثير في العقل ، ونظيره قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧].
وثانيها : أنّ الإنسان قد يختار مذهبا إمّا على سبيل الكناية ، وإمّا على سبيل الرّمز ، وأمّا إذا صرّح بلسانه فهو الغاية في اختيار ذلك المذهب ، والمعنى على هذا : أنّهم يصرّحون بهذا المذهب ولا يخفونه ألبتة.
وثالثها : أنّ المعنى : أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواه والألسنة والمراد : مبالغتهم في دعوة الخلق إلى هذا المذهب.
قال أهل المعاني : لم يذكر الله قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلّا كان ذلك زورا.
قال ابن العربي : «في هذه الآية دليل من قول ربنا تبارك وتعالى على أنّ من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدىء به لا حرج عليه ؛ لأنّه إنّما ينطق به على سبيل الاستعظام له والرّد عليه ، ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد ، فإذا أمكن من إطلاق الألسنة به فقد أذن بالإخبار عنه ، على معنى إنكاره بالقلب واللسان ، والردّ عليه بالحجّة».
قوله «يضاهئون» قرأ العامة «يضاهون» بضمّ الهاء ، بعدها واو ، وعاصم (٢) بهاء مكسورة ، بعدها همزة مضمومة ، بعدها واو ، فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو المشابهة ، وفيه لغتان: «ضاهأت وضاهيت» بالهمز والياء ، والهمز لغة ثقيف.
وقيل : الياء فرع عن الهمزة ، كما قالوا : قرأت وقريت ، وتوضّأت وتوضّيت ، وأخطأت وأخطيت. وقيل : بل «يضاهئون» بالهمز مأخوذ من «يضاهيون» ، فلمّا ضمّت
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٦ / ٢٨.
(٢) ينظر : السبعة ص (٣١٤) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ١٨٦ ، حجة القراءات ص (٣١٦ ـ ٣١٧) ، إعراب القراءات ١ / ٢٤٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٩٠.