لأن هناك مساحة واسعة بين مفهوم الشخصية في الداخل من خلال المزاج ، أو في الخارج من خلال الظروف ، وبين مفهوم العنصر العقلي ، الذي يدقّق ويحاسب ويحاكم ويصحّح ويؤكد الموقف ، فقد جعل الله للعقل قوّة مهيمنة على المؤثرات السلبية في حياة الإنسان ، وأردفه بالوحي الذي يفصّل له الأمور وينظّم له الخطوط ، وبذلك يبقى هناك مجال للتغيير ، وساحة للإرادة الحرّة التي تضغط على المزاج بعقل مفتوح.
وبهذا يبطل السؤال الذي يقول : ما جدوى الرسالات التي توجّه إلى الناس ، إذا كان كل إنسان يعمل على شاكلته التي خلق عليها ، أو التي اكتسبها من خلال ظروفه الموضوعية؟!
إن المسألة لا تتعلق بحالة ضاغطة لا تترك مجالا للاختيار أو للتغيير ، بل بمناخ يثير في النفس عوامل الانحراف ، ويحرّكها في اتجاه المعصية ، في الوقت الذي يمكن للمناخ الآخر القادم من العقل أو من الوحي ، أن يحوّل الخطوات في اتجاه آخر ، ويضعف العوامل السلبية ، ويقوّي ـ بدلا منها ـ العوامل الإيجابية في خط الاستقامة والطاعة ..
وهذا ما قرره الله في الآية الكريمة : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١] التي أكدت على قدرة الإنسان على تغيير نفسه ، بتغيير الصورة الفكرية والشعورية الداخلية ، كوسيلة من وسائل التغيير العملي على صعيد الواقع.
وهذا ما يؤكده الواقع في ما نراه من الأشخاص الذين يولدون في بيئة شريرة تضغط على طريقتهم في التفكير وأسلوبهم في الحياة ونوازعهم وتطلّعاتهم في حركة الواقع من حولهم ... ولكنهم يتمرّدون على هذا الواقع في أنفسهم ، على أساس موقف تأمّل يوحي بالصفاء ، أو موقف فكر يقود نحو التحوّل والتغيير ، أو كلمة وحي سمعوها ، ففتحت لهم آفاقا جديدة من الحياة ،