من خلال تحريك الحسّ في أجواء المعنى ، لتتحرك تفاصيل الفكرة مع حركة تفاصيل الصورة في الواقع.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) التي يريد للإنسان أن يعيشها في عمق وعيه ، من موقع التأمّل المركّز في طبيعتها الزائلة الفانية ، فهي تنطلق على الخط الذي يتصاعد بالقوة والنضارة والجمال ، ثم يهبط نحو الضعف والذبول والزوال ، حتى لا يبقى منها شيء ، وتفنى الصورة في الجسد ، ويفنى الجسد في التراب ... وبذلك لا يبقى من الإنسان إلا الاسم الذي يتردد على الشفاه ، والذكرى التي تخطر على البال. وهذا ما يريد القرآن للإنسان أن يتمثّله في وجدانه ، عند ما تقفز الصورة الحلوة المغرية في دائرة عينيه ، لتسلب لبّه ، ولتثير حسّه ، ولتوحي له بكل إحساس لذيذ ، ولتدفع به نوازع الحسّ اللاهي إلى الغفلة العميقة التي تبعده عن الله ، وتنسيه نفسه ، وتحرفه عن قضية المصير.
وهكذا يريد الله للمثل أن يجسّد لهم الفكرة الواقعية الكامنة خلف ظواهر الدنيا ، من خلال الصورة الظاهرة المتحرّكة في الواقع الحسي.
(كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) في ما تحتويه من البذور المتنوعة المتناثرة في داخلها وخارجها ، فتتحرك فيها الحياة ، ويهتز فيها النموّ ، وتتنوع فيها الألوان ، وتمتد فيها الأغصان ، وتمتلئ بالأوراق وتتدلى منها الثمار الشهية ... وتدخل الأرض في موسم عرس جديد للورود والرياحين والأشجار ، والزرع الأخضر الممتد في ساحاتها بمختلف أنواع العشب والنبات ... ولكن الحياة مهما امتدّت ، واخضرّت ، وتحركت ، واهتزت ، وأنتجت ، وأعطت النموّ والحيوية والجمال للأرض ، فإن لها أمدا معينا وأجلا محدودا ، تجفّ فيه الحيويّة ، وينتهي موسم الورود ، وتتهاوى على الأرض ، وتتفتت فتتحول إلى ما يشبه الفتات الترابي ... (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) مكسّرا متقطعا ، (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) وتعبث به ، فتوزعه هنا وهناك ، وتذهب به