من أفّ لأتى بها» (١). (وَلا تَنْهَرْهُما) أي لا تغلظ عليهما بالزجر والصوت الشديد القاسي (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) بالكلمة الحلوة اللطيفة التي تحمل الحب والعطف والحنان وتوحي بالانفتاح والاحترام والإعزاز والكرامة والابتسامة المشرقة والنظرة الحنونة.
(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) وذلك يمثل التواضع والخضوع قولا وفعلا برّا بهما وشفقة عليهما ، كما يخفض الطائر جناحه إذا ضم فرخه إليه ، فكأنه ـ سبحانه ـ قال : ضم أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير ، وبذلك نفهم كيف لا يريد الله للولد أن يستثير حسّ الكرامة في نفسه تجاه أبويه كما يستثيره تجاه الآخرين ، بل لا بد له من أن يشعر بالذل الناشئ من الشعور بالرحمة لهما ، لا من الشعور بالانسحاق الذاتي والانحطاط الروحي ، كما يخضع الإنسان لمن يحبه حبا له ورحمة به ، فيتحمل منه ما لا يتحمله من غيره ، ويتنازل له عمّا لا يتنازل عنه للآخرين ، ويعيش العفو والتسامح معه إذا أخطأ. إنها الروح الإنسانية التي تنفتح على مواقع الرحمة ، فتهفو وترقّ وتلين وتنساب بالخير والمحبة والسماح ، وتعرف كيف تميز بين مشاعر الرحمة ومشاعر الذل أمام الآخرين ، فتواجه الذين أحسنوا إليها واحتضنوها بالرحمة بالشعور الطاهر الخير نفسه ، لتستمر حركة الإنسانية نحو العطاء ، من خلال مواجهتها بالاعتراف الحيّ بالجميل بالمشاعر التي تحفظ لها كل ما عملته من الخير.
(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) ويتحول هذا الشعور بالرحمة إلى استذكار للتاريخ الشخصي لأبويه معه ، كيف كانا يتعبان ليرتاح ، ويجوعان ليشبع ، ويسهران لينام ، ويتألمان ليلتذّ ، ويضحّيان بكل حياتهما من أجل أن يربيا له جسمه وعقله ، وكيف كانا يحتضنانه بالعطف والحنان ، ويحفظانه من
__________________
(١) مجمع البيان ، ج : ٦ ، ص : ٥٢٩.