ومنها : أن المراد به أعالى الأرض والمواضع المرتفعة فيها ..
وقيل : إن الكلام على سبيل المجاز ، والمراد بقوله ـ سبحانه ـ (فارَ التَّنُّورُ) التمثيل بحضور العذاب ، كقولهم ، حمى الوطيس ، إذا اشتد القتال (١).
وأرجح هذه الأقوال أولها ، لأن التنور في اللغة يطلق على الشيء الذي يخبز فيه ، وفورانه معناه : نبع الماء منه بشدة مع الارتفاع والغليان ، كما يفور الماء في القدر عند الغليان ، ولعل ذلك كان علامة لنوح ـ عليهالسلام ـ على اقتراب وقت الطوفان.
وقد رجح هذا القول المحققون من المفسرين ، فقد قال الإمام ابن جرير بعد أن ذكر جملة من الأقوال في معنى التنور : «وأولى الأقوال عندنا بتأويل قوله (التَّنُّورُ) قول من قال : هو التنور الذي يخبز فيه ، لأن هذا هو المعروف من كلام العرب ، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب ، إلا أن تقوم حجة على شيء منه بخلاف ذلك ، فيسلم لها.
وذلك لأنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به.
أى : قلنا لنوح حين جاء عذابنا قومه ... وفار التنور الذي جعلنا فورانه بالماء آية مجيء عذابنا .. احمل فيها ـ أى السفينة من كل زوجين اثنين ..» (٢).
وقال الإمام الرازي ما ملخصه : فإن قيل : فما الأصح من هذه الأقوال ـ في معنى التنور ..؟.
قلنا : الأصل حمل الكلام على حقيقته ، ولفظ التنور حقيقة في الموضع الذي يخبز فيه ، فوجب حمل اللفظ عليه ...
ثم قال : والذي روى من أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة ، وقد وعد الله ـ تعالى ـ المؤمنين النجاة فلا بد أن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين «فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة» (٣).
وجملة (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) جواب إذا ولفظ (زَوْجَيْنِ) تثنية زوج ، والمراد به هنا الذكر والأنثى من كل نوع.
قراءة الجمهور : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) بدون تنوين للفظ كل ، وإضافته إلى زوجين.
__________________
(١) راجع تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢٣.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٢ ص ٢٥.
(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٢٢٦.