وقوله ـ سبحانه ـ (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ...) رجوع إلى شرح ما جرى ليوسف في منزل العزيز بعد أن أمر امرأته بإكرام مثواه ، وما كان من حال تلك المرأة مع يوسف ، وكيف أنها نظرت إليه بعين ، تخالف العين التي نظر بها إليه زوجها.
والمراودة ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب ، كأن المعنى : خادعته عن نفسه ، أى : فعلت معه ما يفعله المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده ، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهو عبارة عن التحايل لمواقعته إياها (١).
والتعبير عن حالها معه بالمراودة المقتضية لتكرار المحاولة ، للإشعار بأنها كان منها الطلب المستمر ، المصحوب بالإغراء والترفق والتحايل على ما تشتهيه منه بشتى الوسائل والحيل. وكان منه ـ عليهالسلام ـ الإباء والامتناع عما تريده خوفا من الله ـ تعالى ..
وقال ـ سبحانه ـ (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) دون ذكر لاسمها ، سترا لها ، وابتعادا عن التشهير بها ، وهذا من الأدب السامي الذي التزمه القرآن في تعبيراته وأساليبه ، حتى يتأسى أتباعه بهذا اللون من الأدب في التعبير.
والمراد ببيتها : بيت سكناها ، والإخبار عن المراودة بأنها كانت في بيتها. أدعى لإظهار كمال نزاهته عليهالسلام ـ فإن كونه في بيتها يغرى بالاستجابة لها ، ومع ذلك فقد أعرض عنها ، ولم يطاوعها في مرادها.
وعدى فعل المراودة بعن ، لتضمنه معنى المخادعة.
قال بعض العلماء : و «عن» هنا للمجاوزة ، أى : راودته مباعدة له عن نفسه ، أى : بأن يجعل نفسه لها ، والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن الكريم ، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة ، قاله ابن عطية ، أى : فالنفس أريد بها عفافه وتمكينها منه لما تريد ، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه» (٢).
وقوله (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أى : أبواب بيت سكناها الذي تبيت فيه بابا فبابا ، قيل : كانت الأبواب سبعة.
والمراد أنها أغلقت جميع الأبواب الموصلة إلى المكان الذي راودته فيه إغلاقا شديدا محكما ، كما يشعر بذلك التضعيف في «غلّقت» زيادة في حمله على الاستجابة لها.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣١٠.
(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ١٢ ص ٢٥٠ للشيخ الفاضل بن عاشور.