أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ...) كان هذا إنعاما على الرسول ، من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم ، وإنعاما على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر ...
ثم ذكر في هذه الآية ما يجرى مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين :
أما بالنسبة إلى الرسول ، فلأن بعثته كانت إلى الناس عامة ...
وأما بالنسبة لعامة الخلق ، فلأنه ـ سبحانه ـ ما بعث رسولا إلى قوم إلا بلسانهم ...» (١) والباء في قوله «بلسان» للملابسة ، والمراد باللسان : اللغة التي يتخاطب بها الرسول مع قومه ...
والمعنى : وما أرسلنا من قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ رسولا من الرسل إلى قوم من الأقوام ، إلا وكانت لغته كلغتهم ، لكي يتيسر لهم أن يفهموا عند ما يريد أن يبلغهم إياه من الأوامر والنواهي ...
قال ابن كثير : «هذا من لطفه ـ تعالى ـ بخلقه : أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغتهم ليفهموا عنهم ما يريدون ، وما أرسلوا به إليهم كما قال الإمام أحمد.
حدثنا وكيع ، عن عمر بن أبى ذر قال : قال مجاهد : عن أبى ذر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لم يبعث الله ـ عزوجل ـ نبيا إلا بلغة قومه» (٢).
وقال صاحب الكشاف : «فإن قلت : لم يبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث الى الناس جميعا ، وهم على ألسنة مختلفة. فإن لم تكن للعرب حجة ، فلغيرهم الحجة. وإن لم تكن لغيرهم حجة ، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة ـ أيضا ـ قلت : لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل ، فبقى أن ينزل بلسان واحد. فكان أول الألسنة لسان قوم الرسول صلىاللهعليهوسلم لأنهم أقرب إليه.
فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة ، والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل ، وأسلم من
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٧٩.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٩٧.