بتلك الشقاشق الباطلة والتمويهات العاطلة لم يعره السلطان رحمهالله طرفا ولا سمعا ولا رد عليه خفضا ولا رفعا ، بل ضرب عنه صفحا وتغاضيا وترك جوابه إحسانا وتجافيا ، وجرى في ميدان أريحيته واستن في سنن مروّته وخاطبه بكلام لطيف رقيق وقال له : يا هذا اعلم أنني وصلت إلى الشام لجمع كلمة الإسلام وتهذيب الأمور وحياطة الجمهور وسد الثغور وتربية ولد نور الدين وكف عادة المعتدين ، فقال له ابن حسان : إنك إنما وردت لأخذ الملك لنفسك ونحن لا نطاوعك على ذلك ، ودون ما ترومه خرط القتاد وفت الأكباد وإيتام الأولاد ، فلم يلتفت السلطان لمقاله وتزايد في احتماله وأومأ إلى رجاله بإقامته من بين يديه بعد أن كاد يسطو عليه ، ونادى في عساكره بالاستعداد لقصد الشام الأدنى [بلاد حلب] ورحل متوجها إلى حمص فتسلم البلد وقاتل القلعة ولم ير تضييع الزمان عليها ، فوكل بها من يحصرها ورحل إلى جهة حماة ، فلما وصل إلى الرستن خرج صاحبها عز الدين جرديك وأمر من فيها من العسكر بطاعة أخيه شمس الدين علي واتباع أمره ، وسار جرديك حتى لقي السلطان واجتمع به بالرستن وأقام عنده يوما وليلة ، وظهر من نتيجة اجتماعه به أنه سلم إليه حماة وسأله أن يكون السفير بينه وبين من بحلب ، فأجابه السلطان إلى مراده ، وسار إلى حلب وبقي أخو جرديك بقلعة حماة ، قال : وسار جرديك إلى حلب وهو ظان أنه قد فعل شيئا وحصل عند من بحلب يدا ، فاجتمع بالأمراء والملك الصالح وأشار عليهم بمصالحة الملك الناصر ، فاتهمه الأمراء بالمخامرة وردوا مشورته وأشاروا بقبضه ، فامتنع الملك الصالح ولج سعد الدين كمشتكين في القبض عليه ، فقبض وثقّل بالحديد وأخذ بالعذاب الشديد وحمل إلى الجب الذي فيه أولاد الداية ، قال : ولما قدم جرديك وشد في وسطه الحبل ودلي إلى الجب وأحس به أولاد الداية قام إليه منهم حسن وشتمه أقبح شتم وسبه ألأم سب وحلف بالله إن أنزل إليهم ليقتلنه ، فامتنعوا من تدليته فأعلم سعد الدين كمشتكين فحضر إلى الجب وصاح على حسن وشتمه وتوعده ، فسكن حسن وأمسك وأنزل جرديك الجب فكان عند أولاد الداية وأسمعه حسن كل مكروه. قال : وكتب أبي [هو أبو طي وكان من كبار الشيعة] إلى حلب حين اتصل به قبض أولاد الداية وجرديك وكانوا تعصبوا عليه حتى نفاه نور الدين من حلب قصيدة منها :
بنو فلانة أعوان الضلالة قد |
|
قضى بذلهم الأفلاك والقدر |
وأصبحوا بعد عز الملك في صفد |
|
وقعر مظلمة يغشى لها البصر |