وجرد الدهر في جرديك عزمته |
|
والدهر لا ملجأ منه ولا وزر |
قال : ولم يزل السلطان مقيما على الرستن ، ثم طال عليه الأمر فسار إلى جباب التركمان فلقيه أحد غلمان جرديك وأخبره بما جرى على جرديك من الاعتقال والقهر فرحل السلطان من ساعته عائدا إلى حماة وطلب من أخي جرديك تسليم حماة إليه وأخبره بما جرى على أخيه ففعل ، وصعد السلطان إلى قلعة حماة واعتبر أحوالها وولاها مبارز الدين علي بن أبي الفوارس ، وذلك مستهل جمادى الآخرة ، وسار السلطان إلى حلب ونزل على أنف جبل جوشن فوق مشهد الدكة ثالث الشهر وامتدت عساكره إلى الخناقية وإلى السعدي ، وكان من بحلب يظنون أن السلطان لا يقدم عليهم فلم يرعهم إلا وعساكره قد نازلت حلب وخيمه تضرب على جبل جوشن وأعلامه قد نشرت ، فخافوا من الحلبيين أن يسلموا البلد كما فعل أهل دمشق ، فأرادوا تطييب قلوب العامة فأشير على ابن نور الدين أن يجمعهم في الميدان ويقبل عليهم بنفسه ويخاطبهم بنفسه أنهم الوزر والملجأ ، فأمر أن ينادى باجتماع الناس إلى ميدان باب العراق ، فاجتمعوا حتى غص الميدان بالناس ، فنزل الصالح من باب الدرجة وصعد من الخندق ووقف في رأس الميدان من الشمال وقال لهم : يا أهل حلب أنا ربيبكم ونزيلكم واللاجىء إليكم ، كبيركم عندي بمنزلة الأب وشابكم عندي بمنزلة الأخ وصغيركم عندي يحل محل الولد. وخنقته العبرة وسبقته الدمعة وعلا نحيبه ففتن الناس وصاحوا صيحة واحدة ورموا بعمائمهم وضجوا بالبكاء والعويل وقالوا : نحن عبيدك وعبيد أبيك نقاتل بين يديك ونبذل أموالنا وأنفسنا لك. وأقبلوا على الدعاء والترحم على أبيه ، وكانوا قد اشترطوا على الملك الصالح أنه يعيد إليهم شرقية الجامع يصلون فيها على قاعدتهم القديمة وأن يجهر بحي على خير العمل والأذان والتذكير في الأسواق وقدام الجنائز بأسماء الأئمة الاثني عشر وأن يصلوا على أمواتهم خمس تكبيرات وأن يكون عقود الأنكحة إلى الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني (١) وأن تكون العصبية مرتفعة والناموس وازعا لمن أراد الفتنة وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان قد أبطله نور الدين رحمهالله ، فأجيبوا إلى ذلك. قال ابن أبي طي : فأذن المؤذنون في منارة الجامع وغيره بحي على خير العمل ، وصلى أبي في الشرقية مسبلا وصلى وجوه الحلبيين خلفه ، وذكروا في الأسواق وقدام الجنائز
__________________
(١) هو المدفون بجانب المشهد وقبره ظاهر ثمة.