وفي الآية وجه غريب ، خرّجه أبو حيّان ، قال : «وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال ، إذا جعلنا الفعل مسندا ل «الذين» وذلك أن «يحسبنّ» يطلب مفعولين ، و «يبخلون» يطلب مفعولا بحرف جر فقوله «ما آتاهم» يطلبه «يحسبنّ» على أن يكون المفعول الأول ، ويكون «هو» فصلا ، و «خيرا» المفعول الثاني ، ويطلبه «يبخلون» بتوسّط حرف الجر ، فأعمل الثاني ـ على الأفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن ـ وهو «يبخلون» فعدي بحرف الجر ، وأخذ معموله ، وحذف معمول «يحسبنّ» الأول ، وبقي معموله الثاني ؛ لأنه لم يتنازع فيه ، إنما جاء التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول ، وساغ حذفه ـ وحده ـ كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : متى رأيت أو قلت : زيد منطلق؟ لأن رأيت وقلت ـ في هذه المسألة ـ تنازعا في زيد منطلق ، وفي الآية لم يتنازعا إلّا في الأول ، وتقدير المعنى : ولا يحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم الناس الذين يبخلون به ، فعلى هذا التقدير يكون «هو» فصلا ل «ما آتاهم» المحذوف ، لا لبخلهم المقدّر في قول الجماعة.
ونظير هذا التركيب : ظنّ الذي مرّ بهند هي المنطلقة ، المعنى : ظن هند الشخص الذي مر بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأول ، فأعمل الفعل الثاني فيه ، وبقي الأول يطلب محذوفا ، ويطلب الثاني مثبتا ، إذ لم يقع فيه التنازع.
ومع غرابة هذا التخريج ، وتطويله بالتنظير والتقدير ، فيه نظر ؛ وذلك أن النحويين نصوا على أنه إذا أعملنا الفعل الثاني ، واحتاج الأول إلى ضمير المتنازع فيه ، فإن كان يطلبه مرفوعا أضمر فيه ، وإن كان يطلبه غير مرفوع حذف ، إلا أن يكون أحد مفعولي «ظن» فلا يحذف ، بل يضمر ويؤخر وعللوا ذلك بأنه لو حذف لبقي خبر دون مخبر عنه ـ أو بالعكس ـ وهذا مذهب البصريين ، وفيه بحث ، لأن لقائل أن يقول : حذف اختصارا ، لا اقتصارا ، وأنتم تجيزون حذف أحدهما اختصارا في غير التنازع ، فليجز في التنازع ؛ إذ لا فارق ، وحينئذ يقوى تخريج الشّيخ بهذا البحث ، أو يلتزم القول بمذهب الكوفيين ، فإنهم يجيزون الحذف فيما نحن فيه.
وذكر مكيّ ترجيح كلّ من القراءتين ، فقال : «فأما القراءة بالتاء ـ وهي قراءة حمزة ـ فإنه جعل المخاطب هو الفاعل ، وهو النبي صلىاللهعليهوسلم و «الذين» مفعول أول ـ على تقدير حذف مضاف ، وإقامة المضاف إليه ـ الذين ـ مقامه ـ و «هو» فصل ، و «خيرا» مفعول ثان ، تقديره : ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيرا لهم ، ولا بد من هذا الإضمار ، ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى ، وفيها نظر ؛ لجواز ما في الصلة تفسير ما قبل الصلة ، على أن في هذه مزية على القراءة بالياء ؛ لأنك إذا حذفت المفعول أبقيت المضاف إليه يقوم مقامه ، ولو حذفت المفعول في قراءة الياء لم يبق ما يقوم مقامه. وفي القراءة بالياء ـ أيضا ـ مزية على القراءة بالتاء ، وذلك أنك حذفت البخل بعد تقدّم