قال شهاب الدين : «كيف يقال ـ مع نصّ من قدّمت ذكرهم ـ أصحابنا يخصّون ذلك بالضّرورة؟ على أنه ليس من التقديم الذي يكون في الضرورة في شيء ، إنّما هو اعتراض ، والاعتراض لا يقال فيه تقديم وتأخير ، بالاصطلاح الذي يخصّ بالضرورة. وتسميتهم ـ أعني : ابن عباس ، ومن معه رضي الله عنهم ـ إنّما يريدون به الاعتراض المشار إليه ، لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة».
والثاني : أنّ (فِي الْحَياةِ) متعلق بالتعذيب ، والمراد بالتعذيب الدنيويّ : مصائب الدّنيا ورزاياها أو ما لزمهم من التكاليف الشّاقة ، فإنّهم لا يرجون عليها ثوابا ، قاله ابن زيد (١) : أو ما فرض عليهم من الزكوات (٢) ، قاله الحسن. وعلى هذا فالضمير في «بها» يعود على الأموال فقط ، وعلى الأول يعود على «الأولاد ، والأموال».
فإن قيل : أيّ تعذيب في المال والولد وهما من جملة النّعم؟.
فالجواب : على القول الأول بالتقديم والتأخير ، فالسؤال زائل. وعلى الثاني المصائب الواقعة في المالد والولد. وقيل : بل لا بدّ من تقدير حذف ، بأن يقال : أراد بالتعذيب بها من حيث كانت سببا للعذاب ، أمّا في الدّنيا ، فإن من أحب شيئا كان تألمه على فراقه شديدا ، وأيضا يحتاج في تحصيلها إلى تعب شديد ، ومشاقّ عظيمة ، ثم في حفظها كذلك ، وأمّا في الآخرة فالأموال حلالها حساب ، وحرامها عذاب.
فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكلّ ، فما فائدة تخصيص المنافقين؟.
فالجواب : أن المنافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فلا ينفق ماله في سبيل الله لأنّه يراه ضياعا لا يرجو ثوابه ، وأما المؤمن فينفق ماله طيبة بها نفسه ، يرجو الثواب في الآخرة والمنافق لا يجاهد في سبيل الله خوفا من أن يقتل ، والمؤمن يجاهد ، يرجو ثواب الآخرة ثم قال : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) أي : تخرج أنفسهم وهم كارهون. أي : يموتون على الكفر.
قوله : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) على دينكم (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي : ليسوا على دينكم (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا.
قوله : (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ). «الملجأ» : الحصن. وقال عطاء : المهرب (٣) وقيل : الحرز وهو «مفعل» ، من : لجأ إليه ، يلجأ ، أي : انحاز. يقال : ألجأته إلى كذا أي : اضطررته إليه فالتجأ. و «الملجأ» يصلح للمصدر ، والزمان ، والمكان. والظّاهر منها ـ هنا : المكان. و «المغارات» جمع «مغارة» ، وهي الموضع الذي يغور
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٩١) عن ابن زيد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٧) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٩١) عن الحسن وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٠ ـ ٣١٠١).
(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠١).