والألف واللام في (الْأَشْهُرُ) يجوز أن تكون للعهد ، والمراد بها : الأشهر المتقدمة في قوله: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ، والعرب إذا ذكرت نكرة ، ثم أرادت ذكراها ثانيا أتت بضميره ؛ أو بلفظه معرفا ب «أل» ، ولا يجوز حينئذ أن نصفه بصفة تشعر بالمغايرة ، فلو قيل : «رأيت رجلا ، فأكرمت الرجل الطويل» لم ترد بالثاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز ، كقولك : فأكرمت الرجل المذكور ، ومنه هذه الآية ، فإن (الْأَشْهُرُ) قد وصفت ب (الْحُرُمُ) ، وهي صفة مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة ، ويجوز أن يراد بها غير الأشهر المتقدمة ، فلا تكو ن «أل» للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين.
قالوا : المراد بالأشهر الحرم : الأربعة ، رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم.
وقال مجاهد وابن إسحاق : «هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوما» (١)
وقيل لها حرم : لأن الله حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم.
فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم ، والله تعالى يقول : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ). قيل : لما كان القدر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع ، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم.
قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).
اعلم أنه تعالى أمر بعد انقضاء الأشهر الحرم بأربعة أشياء :
أولها : قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) أي : على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرم.
وثانيها : (وَخُذُوهُمْ) أي : أسروهم.
وثالثها : (وَاحْصُرُوهُمْ) والحصر : المنع ، أي : امنعوهم من الخروج إن تحصنوا ، قاله ابن عباس (٢).
وقال الفراء «امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الشام».
ورابعها : قوله (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ). في انتصاب (كُلَّ) وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الظرف المكاني.
قال الزجاج (٣) «نحو : ذهبت مذهبا». ورد عليه الفارسي هذا القول من حيث إنه ظرف مكان مختص ، والمكان المختص لا يصل إليه الفعل بنفسه بل بواسطة ؛ في نحو : صليت في الطريق وفي البيت ، ولا يصل بنفسه إلا في ألفاظ محصورة بعضها ينقاس ،
__________________
(١) أخرجه الطبري ف ي «تفسيره» (٦ / ٣١٩) عن ابن إسحاق وذكره البغوي ف ي «تفسيره» (٢ / ٢٦٩) عن ابن إسحاق ومجاهد.
(٢) انظر المصدر السابق.
(٣) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٤٧٦.