لأنّه ـ تعالى ـ لا يغرب عن علمه شيء ، وذلك الشيء هو الشّفاعة ، ف «ما» عبارة عن الشفاعة.
والمعنى : أنّ الشّفاعة لو كانت لعلمها الباري ـ تعالى ـ ، ومثل هذا الكلام مشهور في العرف ، فإنّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه ، يقول : ما علم الله هذا منّي ، ومقصوده : أنّ ذلك ما حصل أصلا.
وقوله : (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) تأكيد لنفيه ؛ لأنّ كلّ موجود لا يخرج عنهما. ويجوز أن تكون «ما» عبارة عن الأصنام ، وفاعل «يعلم» : ضمير عائد عليها.
والمعنى : أتعلمون الله بالأصنام ، التي لا تعلم شيئا في السموات ولا في الأرض ، وإذا ثبت أنها لا تعلم ، فكيف تشفع؟ والشافع لا بدّ وأن يعرف المشفوع عنده ، والمشفوع له ؛ هكذا أعربه أبو حيّان ، فجعل «ما» عبارة عن الأصنام ، لا عن الشّفاعة ، والأول أظهر ، و «ما» في (عَمَّا يُشْرِكُونَ) يحتمل أن تكون بمعنى : «الّذي» أي : عن شركائهم الذين يشركونهم به في العبادة ، أو مصدرية ، أي : عن إشراكهم به غيرهم ، وقرأ الأخوان (١) هنا «عما يشركون» ، وفي النّحل موضعين :
الأول : (عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) [النحل : ١ ، ٢].
الثاني : (بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النحل : ٣].
وفي الروم : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الروم : ٤٠] بتاء الخطاب ، والباقون بالغيبة في الجميع ، وهما واضحتان ، وأتى هنا ب «يشركون» مضارعا دون الماضي ، تنبيها على استمرار حالهم كما جاءوا يعبدون ، وتنبيها أيضا على أنّهم على الشرك في المستقبل ، كما كانوا عليه في الماضي.
قوله تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) الآية.
لمّا أقام الدّلالة على فساد القول بعبادة الأصنام ؛ بيّن السّبب في كيفية حدوث هذه المسألة الباطلة ، فقال : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) أي : على الدّين الحقّ ؛ لأن المقصود من هذه الآية ، بيان كون الكفر باطلا ؛ لأنّ قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [البقرة : ٢١٣] في الإسلام أو في الكفر ، ولا يجوز أن يكونوا أمّة واحدة في الكفر ، فبقي أنّهم كانوا أمّة واحدة في الإسلام ، لقوله ـ تعالى ـ : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١] ، وشهيد الله لا بدّ وأن يكون مؤمنا ، فثبت أنّه لم تخل أمّة من الأمم ، إلا وفيهم مؤمن.
وقد وردت الأحاديث ، بأنّ الأرض لا تخلو عمّن يعبد الله ـ عزوجل ـ ، وعن أقوام بهم يمطر أهل الأرض ، فثبت أنّهم ما كانوا أمّة واحدة في الكفر ، فيكونوا أمّة
__________________
(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٤) ، الحجة ٤ / ٢٦٣ ، حجة القراءات ص (٣٢٩) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٥ ، إتحاف ٢ / ١٠٧.