عاد عليه ضمير (بَلْ كَذَّبُوا) ، وأن يراد به (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
ومعنى الآية : أنّهم طلبوا الدّنيا ، وتركوا الآخرة ، فبقوا في الخسار العظيم ، وقيل : المراد : عذاب الاستئصال الذي نزل بالأمم السّابقة.
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) الآية.
لمّا قال : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) والمراد منه : تسليط العذاب عليهم في الدّنيا ، أتبعه بقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) تنبيها على أنّ الصّلاح عنده ـ تعالى ـ كان في هذه الطائفة ، والأقرب : أنّ الضمير في قوله «به» يرجع إلى «العذاب» ؛ لأنّه المذكور من قبل ، وقيل إلى : القرآن ، واختلفوا في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) لأنّ «يؤمن» يصلح للحال ، والاستقبال ، فحمله بعضهم على الحال ، أي : ومنهم من يؤمن بالقرآن باطنا ؛ لكنّه يتعمد الجحد. ومنهم من باطنه كظاهره.
وقيل : المراد : الاستقبال ، أي : ومنهم من يؤمن به في المستقبل ؛ بأن يتوب عن الكفر ، ومنهم من يصرّ على الكفر.
(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي : بأحوالهم ، أي : هل يبقوا على الكفر أو يتوبوا.
ثم قال : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي ،) وجزاؤه (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) ، وجزاؤه (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١] ، هذا كقوله ـ تعالى ـ : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [الشورى : ١٥] ، ومعنى الكلام : الردع والزجر ، وقيل : معناه : استمالة قلوبهم ، قال مقاتل والكلبيّ : «هذه الآية منسوخة بآية السيف» ، وهذا بعيد ؛ لأنّ شرط النّاسخ أن يكون رافعا لحكم المنسوخ ، ومدلول هذه الآية : اختصاص كلّ واحد بأفعاله ، وثمراتها من الثواب والعقاب ، وذلك لا يقتضي حرمة القتال ، فآية القتال ما رفعت شيئا من مدلولات هذه الآية ، فكان القول بالنسخ باطلا.
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) الآية.
لمّا قسّم الكفار في الآية الأولى إلى : من يؤمن ، ومن لا يؤمن ، قسّم من لا يؤمن ههنا إلى قسمين : منهم من يكون في نهاية البغض والعداوة ، ومنهم من لا يكون كذلك ، فوصف ههنا القسم الأوّل ، فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) مع أنّه يكون كالأصمّ ، من حيث إنّه لا ينتفع ألبتّة بذلك الكلام ، فإنّ الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر ، كان معرضا عن سماع كلامه ، ولا يلتفت إليه ، كما أنّ الصّمم في الأذن يمنع إدراك الصوت ، والعمى في العين يمنع إدراك البصر ، فكذا البغض الشديد يمنع من الوقوف على محاسن كلامه ، ويمنع الوقوف على محاسن من يعاديه.
قوله : (مَنْ يَسْتَمِعُونَ) : مبتدأ ، وخبره الجارّ قبله ، وأعاد الضمير جمعا ؛ مراعاة لمعنى «من» ، والأكثر مراعاة لفظه ، كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٣].