قال ابن الأنباري : المراد من الأمر هنا : وجوه كيدهم ، ومكرهم ، والتقدير : لا تتركوا من أمركم شيئا إلا أحضرتموه. والمراد من الشركاء : إما الأوثان ؛ لأنّهم كانوا يعتقدون أنّها تضرّ وتنفع ، وإمّا أن يكون المراد : من كان على مثل دينهم.
(ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي : خفيّا مبهما ، من قولهم : غمّ الهلال على النّاس ، أي : أشكل عليهم ، فهو مغموم إذا خفي. (ثُمَّ اقْضُوا) أي : امضوا ، «إليّ» : بما في أنفسكم من مكروه وافرغوا منه ، يقال : قضى فلان : إذا مات ، وقضى دينه : إذا فرغ منه ، وقيل معناه : توجّهوا إليّ بالقتل والمكروه ، وقيل : «فاقضوا ما أنتم قاضون» كقول السّحرة لفرعون» (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [طه : ٧٢].
قال القفال : ومجاز دخول كلمة «إلى» في هذا الموضع من قولهم : برئت إليك ، وخرجت إليك من العهد ، وفيه معنى الإخبار ؛ فكأنّه ـ تعالى ـ قال : ثم اقضوا إليّ ما يستقرّ رأيكم عليه محكما مفروغا منه ، ثم لا تنظرون أي : لا تمهلون ولا تؤخّرون.
وقد نظّم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه ، فقال : إنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال في أول الأمر : فعلى الله توكلت ؛ فإنّي واثق بوعد الله ، جازم بأنّه لا يخلف الميعاد ، فلا تظنّوا أنّ تهديدكم إيّاي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدّعاء إلى الله ثم إنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه ، فقال : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) كأنّه يقول : اجمعوا ما تقدرون عليه من الأشياء التي توجب حصول مطلوبكم ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل أمرهم أن يضمّوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أنّ حالهم يقوى بمكانتهم وبالتّقرب إليهم ، ثم لم يقتصر على هذين ، بل ضمّ إليهما ثالثا ، وهو قوله : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) عليه (غُمَّةً) أراد أن يبلغوا فيه كل غاية في المكاشفة والمجاهرة ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل ضمّ إليها رابعا ، فقال : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) والمراد : أن وجهوا كلّ تلك الشّرور إليّ ، ثم ضمّ إلى ذلك خامسا ، وهو قوله : (لا تُنْظِرُونِ) أي : عجّلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير انتظار ، ومعلوم أنّ مثل هذا الكلام يدل على أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله ، وأنّه كان قاطعا بأنّ كيدهم لا يضرّه ، ولا يصل إليه ، ومكرهم لا ينفذ فيه.
قوله : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن قولي ، وقبول نصحي ، (فَما سَأَلْتُكُمْ) على تبليغ الرّسالة والدّعوة (مِنْ أَجْرٍ) جعل وعوض ، (إِنْ أَجْرِيَ) : ما أجري وثوابي ، (إِلَّا عَلَى اللهِ).
قال المفسّرون : وهذا إشارة إلى أنّه ما أخذ منهم مالا على دعواهم إلى دين الله ، وكلّما كان الإنسان فارغا من الطّمع ، كان قوله أقوى تأثيرا في القلب.
قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر : وهو أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بيّن أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه ، وذلك لأنّ الخوف إنّما يحصل بأحد شيئين : إمّا بإيصال الشّر ،