أو بقطع المنافع ، فبيّن فيما تقدّم أنه لا يخاف شرّهم ، وبيّن في هذه الآية أنّه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعوا عنه خيرا ؛ لأنّه ما أخذ منهم شيئا ، فكان يخاف أن يقطعوا منه خيرا ، ثم قال: إن أجري إلّا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين وفيه قولان :
الأول : أنكم سواء قبلتم دين الإسلام ، أو لم تقبلوا ، فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام.
الثاني : أنّي مأمور بالاستسلام لكلّ ما يصل إليّ لأجل هذه الدّعوة ، وهذا الوجه أليق بهذا الموضع ؛ لأنّه لمّا قال اقضوا إليّ بيّن أنّه مأمور بالاستسلام لكلّ ما يصل إليه.
قوله : (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ).
لمّا حكى كلام نوح مع الكفّار ، ذكر ـ تعالى ـ ما آل أمرهم إليه : أمّا في حقّ نوح وأصحابه ، فنجّاهم وجعلهم خلائف ، أي : يخلفون من هلك بالغرق ، وأمّا في حق الكفار فإنّه ـ تعالى ـ أهلكهم وأغرقهم ، وهذه القصّة إذا سمعها من صدّق الرسول ومن كذب به ، كانت زجرا للمكذّبين فإنهم يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح ، وتكون داعية للمؤمنين إلى الثّبات على الإيمان ؛ ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح.
قوله : (فِي الْفُلْكِ) يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلّق ب «نجّيناه» ، أي : وقع الإنجاء في هذا المكان.
والثاني : أن يتعلّق بالاستقرار الذي تعلّق به الظرف ، وهو «معه» لوقوعه صلة ، أي : والذين استقرّوا معه في الفلك ، وقوله : (وَجَعَلْناهُمْ) أي : صيّرناهم ، وجمع الضمير في «جعلناهم» حملا على معنى «من» ، و «خلائف» جمع خليفة ، أي : يخلفون الغارقين.
قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد نوح ، (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) ولم يسمّ الرسل ، وقد كان منهم هود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ، وهي المعجزات الباهرة ، و «بالبيّنات» متعلق ب «فجاءوهم» أو بمحذوف على أنه حال أي : ملتبسين بالبينات ، (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي : أنّ حالهم بعد بعثة الرسل ، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية.
قال القرطبيّ : التقدير : بما كذّب به قوم نوح من قبل ، وقيل (بِما كَذَّبُوا بِهِ) أي : من قبل يوم الذرّ فإنه كان فيهم من كذّب بقلبه ، وإن قال الجميع : بلى.
وقال النحاس : أحسن ما قيل في هذا : أنّه لقوم بأعيانهم ، مثل : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦]. و «بالبيّنات» متعلق ب «جاءوهم» ، أو بمحذوف على أنّه حال ، أي : ملتبسين بالبيّنات.
وقوله : «ليؤمنوا» أتى بلام الجحود توكيدا ، والضّمير في «كذّبوا» عائد على من عاد عليه الضّمير في كانوا ، وهم قوم الرّسل.