قال شهاب الدّين : «والجواب : أنّ الفرّاء ، وابن عطيّة إنّما أرادا السّحر المتقدّم الذكر في اللفظ ، وإن كان الثّاني هو غير عين الأول في المعنى ، ولكن لمّا أطلق عليهما لفظ «السّحر» جاز أن يقال ذلك ، ويدلّ على هذا : أنّهم قالوا في قوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّلامُ عَلَيَ) [مريم : ٣٣] إنّ الألف واللام للعهد ؛ لتقدّم ذكر السّلام في قوله ـ تعالى ـ : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) [مريم : ١٥] ، وإن كان السّلام الواقع على عيسى ، هو غير السّلام الواقع على يحيى ؛ لاختصاص كلّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به ، وهذا النّقل المذكور عن الفرّاء في الألف واللّام ، ينافى ما نقله عنه مكّي فيهما ، اللهمّ إلّا أن يقال : يحتمل أن يكون له مقالتان ، وليس ببعيد ؛ فإنّه كلّما كثر العلم ، اتّسعت المقالات».
قوله : (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي : سيهلكه ، ويظهر فضيحة صاحبه ، (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) أي : لا يقوّيه ولا يكمّله ، وقوله : «المفسدين» من وقوع الظّاهر موقع ضمير المخاطب ؛ إذ الأصل : لا يصلح عملكم ؛ فأبرزهم في هذه الصّفة الذّميمة شهادة عليهم بها ، ثم قال : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ) أي : يظهره ويقوّيه ، «بكلماته» أي : بوعده موسى ، وقيل: بما سبق من قضائه وقدره ، وقرىء : «بكلمته» بالتوحيد ، وتقدّم نظيره [الأنفال ٧].
قوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى) الفاء للتّعقيب ، وفيها إشعار بأنّ إيمانهم لم يتأخّر عن الإلقاء ، بل وقع عقيبه ؛ لأنّ الفاء تفيد ذلك ، وقد تقدّم توجيه تعدية «آمن» باللّام ، والضّمير في «قومه» فيه وجهان :
أظهرهما : أنّه يعود على موسى ؛ لأنّه هو المحدّث عنه ؛ ولأنّه أقرب مذكور ، ولو عاد على فرعون ، لم يكرّر لفظه ظاهرا ، بل كان التركيب : «على خوف منه» وإلى هذا ذهب ابن عبّاس ، وغيره ، قال : المراد : مؤمني بني إسرائيل الذين كانوا بمصر ، وخرجوا معه (١).
قال ابن عبّاس : لفظ الذّريّة يعبّر به عن القوم على وجه التّحقير والتّصغير (٢) ، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا ؛ فوجب حمله على التصغير ، بمعنى : قلة العدد.
قال مجاهد : كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل ، هلك الآباء ، وبقي الأبناء (٣).
وقيل : هم قوم نجوا من قتل فرعون ؛ وذلك أنّ فرعون لما أمر بقتل أبناء بني إسرائيل ، كانت المرأة في بني إسرائيل ، إذا ولدت ابنا وهبته لقبطيّة ، خوفا عليه من القتل ، فنشئوا بين القبط ، وأسلموا في اليوم الذي غلب فيه موسى السّحرة.
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ١١٥ ـ ١١٦).
(٢) انظر المصدر السابق.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٩٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٥) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبي الشيخ.