فلو كنت صادقا لاتبعك الأشراف والرؤساء ، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١].
الثالثة : قولهم : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوّة الجدل فإذا لم نشاهد فضلك في شيء من هذه الأحوال الظاهرة ؛ فكيف نعترف بفضلك في أشرف الدرجات.
واعلم أنّ الشّبهة الأولى لا تليق إلّا بالبراهمة الذين ينكرون نبوّة البشر على الإطلاق ، وتقدّم الكلام على «الملأ» وتقدم الكلام على الشبهة الأولى في الأنعام في الأعراف [٦٦].
واعلم أنّه لو بعث إلى البشر ملكا رسولا لكانت الشبهة أقوى في الطّعن عليه في رسالته ؛ لأنّه يخطر بالبال أنّ هذه المعجزة التي ظهرت على يد هذا الملك أتى بها من عند نفسه ؛ لأنّ قوّته أكمل ؛ فلهذا ما بعث الله إلى البشر رسولا إلّا من البشر.
وأمّا قولهم (ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) فهذا أيضا جهل ؛ لأنّ الرّفعة في الدّين لا تكون بالحسب ولا بالمال ، ولا بالمناصب العالية ، بل الفقر أهون على الدّين من الغنى ، والأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدّنيا والإقبال على الآخرة ، فكيف يجعل الفقر في الدّنيا طعنا في النبوة والرسالة.
وأمّا قولهم : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) فهو أيضا جهل ؛ لأنّ الفضيلة المعتبرة عند الله ـ تعالى ـ ليست إلّا بالعلم والعمل ، فكيف اطّلعوا على بواطن الخلق حتّى عرفوا نفي هذه الفضيلة.
ثم قالوا لنوح وأتباعه (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) وهذا خطاب مع نوح وقومه ، والمراد منه تكذيب نوح في دعوى الرّسالة.
وقيل : خطاب مع الأراذل ، أي كذّبوهم في إيمانهم.
قوله تعالى : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ).
وهذا جواب عن شبهتهم الأولى ، والمعنى : أنّ حصول المساواة في البشريّة لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة ، وذكر الطّريق الدّال على إمكانه ، وهو كونه على بيّنة من معرفة الله وصفاته ـ سبحانه ـ وما يجب وما يمتنع وما يجوز (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) وهي إمّا النبوة ، وإمّا المعجزة الدّالة على النبوّة (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي : صارت مظنة خفيت ، والتبست عليكم.
قوله : (مِنْ رَبِّي) نعت ل «بيّنة» ، أي : بيّنة من بيّنات ربّي.
قوله : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) يجوز في الجارّ أيضا أن يكون نعتا ل «رحمة» وأن يكون متعلقا ب «آتاني».