والبركة : ثبوت الخير ومنه بروك البعير ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها ، ومنه (تَبارَكَ اللهُ) [الأعراف : ٥٤] أي : ثبت تعظيمه وقيل : البركة ههنا هي أنّ الله ـ تعالى ـ جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة ، ثم لمّا بشّره بالسّلامة والبركة شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال: (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) قيل : المراد الذين معه ، وذرياتهم ، وقيل : ذرّية من معه.
قوله (مِمَّنْ مَعَكَ) يجوز في «من» أن تكون لابتداء الغاية ، أي : ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدّهر ، ويجوز أن تكون «من» لبيان الجنس ، فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة ؛ لأنّهم كانوا جماعات.
وقرىء «اهبط» بضمّ الباء ، وقد تقدّم أول البقرة ، وقرأ (١) الكسائيّ ـ فيما نقل عنه ـ «وبركة» بالتوحيد.
قوله : (وَأُمَمٌ) يجوز أن يكون مبتدأ ، و «سنمتّعهم» خبره ، وفي مسوغ الابتداء وجهان :
أحدهما : الوصف التقديري ، إذ التقدير : وأمم منهم ، أي : ممّن معك كقولهم : «السّمن منوان بدرهم» ف «منوان» مبتدأ وصف ب «منه» تقديرا.
والثاني : أنّ المسوّغ لذلك التفصيل نحو : «النّاس رجلان : رجل أهنت ، وآخر أكرمت» ومنه قول امرىء القيس : [الطويل]
٢٩٧٩ ـ إذا ما بكى من خلفها انحرفت له |
|
بشقّ وشقّ عندنا لم يحوّل (٢) |
ويجوز أن يكون مرفوعا بالفاعلية عطفا على الضّمير المستتر في «اهبط» وأغنى الفصل عن التأكيد بالضّمير المنفصل ، قاله أبو البقاء. قال أبو حيّان : وهذا التقدير والمعنى لا يصلحان ، لأنّ الذين كانوا مع نوح في السّفينة إنّما كانوا مؤمنين ؛ لقوله : (وَمَنْ آمَنَ) ولم يكونوا كفّارا ومؤمنين ، فيكون الكفار مأمورين بالهبوط ، إلّا إن قدّر أنّ من المؤمنين من يكفر بعد الهبوط ، وأخبر عنهم بالحال التي يؤولون إليها فيمكن على بعد. وقد تقدّم أنّ مثل ذلك لا يجوز ، في قوله (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) [البقرة : ٣٥] لأمر صناعي ، و «سنمتّعهم» على هذا صفة ل «أمم» ، والواو يجوز أن تكون للحال قال الأخفش : كما تقول : «كلّمت زيدا وعمرو جالس» ويجوز أن تكون لمجرّد النّسق.
واعلم أنّه سبحانه أخبر بأنّ الأمم النّاشئة الذين كانوا مع نوح لا بدّ وأن ينقسموا إلى مؤمن وكافر.
ثم قال : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) وقد تقدّم الكلام فيها عند قوله (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) [آل عمران : ٤٤] في آل عمران. و «تلك» في محلّ رفع على الابتداء ، و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) الخبر ، و (نُوحِيها إِلَيْكَ) خبر ثان.
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٣١ ، والدر المصون ٤ / ١٠٥.
(٢) تقدم.