حاضرة إلّا أنّ الجواب عنه تقدّم في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢].
ولفظ «ذلك» إشارة إلى الواحد والجماعة ، كقوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨].
ويحتمل أن يكون ذلك الذي ذكرناه هو كذا وكذا.
قال الزمخشريّ : «ذلك» مبتدأ ، و (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) خبر بعد خبر : أي ذلك المذكور بعض أنباء القرى مقصوص عليك. وقال شهاب الدّين (١) : يجوز أن يكون «نقصّه» خبرا و (مِنْ أَنْباءِ) حال ، ويجوز العكس ، قيل : وثمّ مضاف محذوف ، أي من أنباء أهل القرى ، ولذلك أعاد الضمير عليهم في قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ).
ثم قال : ويجوز في «ذلك» أوجه :
أحدها : أنّه مبتدأ كما تقدم [هود : ٤٩].
والثاني : أنّه منصوب بفعل مقدر يفسّره «نقصّه» فهو من باب الاشتغال ، أي : نقصّ ذلك في حال كونه من أنباء القرى ، وقد تقدّم في قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أوجه ، وهي عائدة هنا.
قوله : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) : «حصيد» مبتدأ محذوف الخبر ، لدلالة خبر الأوّل عليه ، أي : ومنها حصيد ، وهذا لضرورة المعنى.
و «الحصيد» بمعنى المحصود ، وجمعه : حصدى وحصاد مثل : مريض ومرضى ومراض ، وهذا قول الأخفش ، ولكن باب «فعيل» ، و «فعلى» أن يكون في العقلاء ؛ نحو : قتيل وقتلى. والضمير في «منها» عائد إلى القرى ، شبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقة ، وما عفا منها وبطل بالحصيد.
والمعنى : أنّ تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر ألبتّة.
قال بعض المفسرين : القائم : العامر ، والحصيد : الخراب. وقيل : القائم ما بقيت حيطانه ، وسقطت سقوفه ، وحصيد : انمحى أثره. وقال مقاتل : قائم يرى له أثر ، وحصيد لا يرى له أثر.
ثم قال : (وَما ظَلَمْناهُمْ) بالعذاب والإهلاك : (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعصية وقيل : الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله ، بل هو عدل وحكمة ؛ لأنّ القوم أولا ظلموا أنفسهم بإقدامهم على الكفر والمعاصي ، فاستوجبوا بتلك الأعمال من الله العذاب.
وقال ابن عباس : وما نقصناهم في الدنيا من النعم والرزق ، ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفّوا بحقوق الله تعالى (٢).
__________________
(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٢٩.
(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٤٦).