الجنّة مشغولون بلذاتهم ، فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعقاب الدّائم في حقّ غيرهم ؛ فثبت أنّ ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النّفع ؛ فوجب أن لا يجوز.
وهذا قول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك ـ رضي الله عنهم ـ وذهب إليه الحسن البصريّ وحمّاد بن سلمة وبه قال عليّ بن طلحة وجماعة من المفسّرين ، رواه عنهم ابن تيمية.
وأما الجمهور الأعظم من الأمّة ، فقد اتفقوا على أنّ عذاب الكافر دائم ، وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسّك بهذه الآية ، فذكروا جوابين :
أحدهما : قالوا المراد سماوات الاخرة وأرضها ، قالوا : والدليل على أنّ في الآخرة سماء وأرضا قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] وقوله : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] ، وأيضا : لا بدّ لأهل الآخرة ممّا يقلهم ويظلهم ؛ وذلك هو الأرض والسّموات.
ولقائل أن يقول : التشبيه إنما يصحّ ويجوز إذا كان حال المشبه به مقررا معلوما ، فيشبه غيره به تأكيدا لثبوت الحكم في المشبه ، ووجود السّموات والأرض في الآخرة غير معلوم ، وبتقدير أن يكون وجوده معلوما إلّا أنّ بقاءهما على وجه لا يفنى ألبتّة غير معلوم ، فإذا كان أصل وجودهما مجهولا لأكثر الخلق ، ودوامهما أيضا مجهولا للأكثرين ، كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدّوام بهما كلاما عديم الفائدة ، أقصى ما في الباب أن يقال : لمّا ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة ، وثبت دوامهما ؛ وجب الاعتراف به ، وحينئذ يحسن التّشبيه ، إلّا أنّا نقول : لمّا كان الطّريق في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ، ودوام أرضهم هو السّمع ، ثمّ السمع دلّ على دوام عقاب الكافر ، فحينئذ الدّليل الذي دلّ على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع ، وفي هذه الصورة أجمعوا على أنّ القياس ضائع والتّشبيه باطل ، فكذا ههنا.
الوجه الثاني ـ في الجواب ـ قالوا : إنّ العرب يعبّرون عن الدّوام والأبد بقولهم : لا آتيك ما دامت السموات والأرض ، وقولهم : ما اختلف الليل والنهار ، وما طما البحر ، وما أقام الجبل وأنّه تعالى خاطب القوم على عرفهم في كلامهم ، فلمّا ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنّها باقية أبدا ، علمنا أنّ هذه الألفاظ في عرفهم تفيد الأبد والدّوام.
ولقائل أن يقول : هل تسلمون أنّ قول القائل : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ) الله ، يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات؟ أو تقولون : إنّه لا يدلّ على هذا المعنى ، فإن كان الأوّل ؛ فالإشكال لازم ؛ لأنّ النصّ لمّا دل على أنّه يجب أن تكون مدة مقامهم في النار مساوية لمدة بقاء السموات والأرض ، ويمنع من حصول بقائهم في النّار بعد فناء السموات ، وثبت أنّه لا بدّ من فناء السموات ، فعند هذا يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب ، وإن قلتم إنّ هذا لا يمنع من بقائهم في النّار بعد فناء