أجل البحث عن موقع الفكرة على الطبيعة وفي الواقع ، لأن الدرس لم يكن درسا نظريا ، ليجلسا على الأرض ، وليتحدثا عن القضايا المطروحة في الساحة الفكرية والعملية ، وليحلّلا تفاصيلها ويدرسا المواقف الحاسمة على أساس ذلك ، بل كان درسا عمليا يتحرك فيه هذا العالم الصالح في الساحة الواقعية ، التي قد يوحي الحدث فيها بشيء ، ولكن العمق الداخلي له يوحي بشيء آخر ، ليترك الفكرة تتفاعل في داخل موسى عليهالسلام ، من خلال حالة الاندهاش التي يثيرها الموقف ، فتحفر في عقله ووجدانه وشعوره ، ليصل إلى النتيجة بنفسه ، أو من خلال توجيه العالم له ، بعد أن تترك الفكرة آثارها في عمق شخصيته. ولهذا انطلقا في رحلة البحث عن المعرفة. وربما تحدثا بحديث عابر ، وربما كانا يسيران صامتين يفكر أحدهما ـ وهو موسى عليهالسلام ـ في المجهول الذي يقبل عليه ، ويفكر الآخر ـ وهو العالم ـ في التجربة التي يريد أن يحركها في الدرس الأول. (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ) التي مرّت عليهما ، أو ذهبا إلى موقعها في الشاطئ ، واستقر بهما المقام فيها ، (خَرَقَها) وأحدث فيها ثغرة قد ينفذ الماء منها ، وفزع موسى عليهالسلام من هذا العمل الذي يشبه الجريمة ، وتوترت أعصابه لأن ذلك قد يؤدي إلى غرق السفينة عند ما ينفذ الماء من هذه الثغرة فيغرقان ، في من يغرق من أهلها من دون أيّ مبرّر شرعي ، فاحتجّ على ذلك بشدّة ، (قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها)؟ كيف تفعل ذلك أو كيف تبرّره؟ (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي داهية عظيمة.
وردّ عليه العبد الصالح بهدوء ، ليذكره بوعده بأن يظلّ صامتا مهما رأى من فعله ، ومهما أثار ذلك الدهشة في داخله ... حتى يفسر له هو العمل. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لأن طريقتي في العمل تختلف عن طريقتك ، فلا تستطيع أن تفهم طبيعة أعمالي ، إذا أردت أن تقيسها بما تتخذه لنفسك من مقياس. وانتبه موسى عليهالسلام لنفسه ، فكيف يستعجل الحكم عليه ، وكيف يخالف ما عاهده عليه من الالتزام بالصمت أمام كل شيء يصدر منه؟!