عين حمئة ـ كما يقول سيد قطب (١) ـ وربما كانت النقطة عند شاطئ المحيط الأطلسي الذي كان يسمى بحر الظلمات ، ويظن أن اليابسة تنتهي عنده ، فرأى الشمس تغرب فيه.
(وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) استطاع أن يسيطر عليهم بالقوة القاهرة التي كان يملكها ، وأن يحكمها بالمنهج الذي يراه أساسا للحكم ، ولكنه ليس المنهج الذي يتخذ السلطة وسيلة للقهر أو لأخذ المحسن بذنب المسيء ، أو للعمل على خنق حريتهم ومصادرة إنسانيتهم ، كما يفعل الأقوياء. وهكذا واجه الخيار الذي يقف أمامه في موقع الاختيار بين العذاب الذي يسومهم به ، وبين العفو والتسامح والرحمة التي يعاملهم بها. وهذا هو ما يستوحيه من التعاليم الإلهية المنزلة على الرسل الذين عاصرهم ، أو تقدموا عليه ، وذلك كما لو كان يستمع إلى كلام الله بشكل مباشر ، لأن الإنسان الواعي المنفتح على الرسالة يواجه كلام الله الذي يقرأه أو يسمعه ، كما لو كان يستمع إليه من ربه.
(قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) وفي ضوء ذلك ، فليس من الضروري أن يكون هذا القول من الله وحيا إلهيا ، ليكون ذلك دليلا على نبوّته ، ولكن ما معنى هذا الخيار؟ هل أن القوم كانوا منحرفين متمردين يستحقون العذاب جزاء لانحرافهم وتمردهم ، أم ربّما كانوا يرجون العفو والمعاملة الحسنة على أساس جهلهم وتخلّفهم ، مما يمكن أن يكون عذرا لهم ، ليكون ذلك وسيلة من وسائل تراجعهم عن خط الانحراف عند ما يعيشون روح التسامح التي تفتح قلوبهم وعقولهم على الخير القادم من الله؟! ووقف ذو القرنين بين الخيارين ، ولكنه كان يريد أن يواجه المسؤولية من خلال الحكم على الواقع الإنساني الذي عاشه هؤلاء في نتائجه العملية ، فلا بد من دراسة تاريخ حياتهم ، ليعرف ماذا فعلوه من خير أو شرّ ، وما مارسوه من صلاح أو
__________________
(١) قطب ، سيد ، في ظلال القرآن ، دار الشروق ، ١٩٩٤ م. ج : ٤ ، ص : ٢٢٣١.