وأما «يكتمون» فخبر حتم ، لا يجوز فيه إلا الرفع. يعني أنه ليس معطوفا على (تَلْبِسُونَ)، بل هو استئناف ، خبّر عنهم أنهم يكتمون الحقّ مع علمهم أنه حق.
ونقل أبو محمد بن عطيّة عن أبي عليّ أنه قال : الصّرف ـ هنا ـ يقبح ، وكذلك إضمار «أن» لأن «تكتمون» معطوف على موجب مقرّر ، وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللّبن ، وليس بمنزلة قولك : أيقوم فأقوم؟ والعطف على الموجب المقرّر قبيح متى نصب ـ إلا في ضرورة الشعر ـ كما روي : [الوافر]
١٥٠٦ ـ ........... |
|
وألحق بالحجاز فأستريحا (١) |
قال سيبويه ـ في قولك : أسرت حتى تدخلها ـ : لا يجوز إلا النّصب في «تدخلها» لأن السير مستفهم عنه غير موجب ، وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها؟ رفعت لأن السير موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره.
قال أبو حيّان : وظاهر هذا النقل ـ عنه ـ معارضته لما نقل عنه قبله ؛ لأن ما قبله فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحسب ، وأما «يكتمون» فخبر حتما ، لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أنّ «يكتمون» معطوف على موجب مقرّر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس ، وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى ، وبين أن يكون (تَكْتُمُونَ) إخبارا محضا ، لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمّن وقوع الفعل ، لا ينتصب الفعل بإضمار «أن» في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك ، فقال في تسهيله : «أو لاستفهام لا يتضمّن وقوع الفعل». فإن تضمن وقوع الفعل امتنع النصب عنده ، نحو : لم ضربت زيدا فيجازيك ؛ لأن الضرب قد وقع. ولم يشترط غيرهما ـ من النحويين ـ ذلك ، بل إذا تعذر سبك المصدر مما قبله ـ إمّا لعدم تقدّم فعل ، وأما لاستحالة سبك المصدر المراد به الاستقبال ؛ لأجل مضيّ الفعل ـ فإنما يقدر مصعد مقدّرا استقباله بما يدل عليه المعنى ، فإذا قلت : لم ضربت زيدا فأضربك؟ فالتقدير : ليكن منك إعلام بضرب زيد فمجازاة منا ، وأما ما ردّ به أبو علي الفارسي على الزجّاج والفرّاء ليس بلازم ؛ لأنه قد منع أن يراد بالفعل المضيّ معنى إذ ليس نصّا في ذلك ؛ إذ قد يمكن الاستقبال لتحقيق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك ، وعلى تقدير تحقّق المضي فلا يلزم ـ أيضا ـ لأنه ـ كما تقدم ـ إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها ، ويدل على إلغاء هذا الشرط ، والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابن كيسان من رفع المضارع بعد فعل ماض ، محقّق الوقوع ،
__________________
(١) تقدم برقم ٧٥٩.