الكثيرة كان بمنزلة الآيات ، كقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٠] ، قاله ابن الخطيب.
الثالث : أن يكون هذا من باب الطّيّ ، وهو أن يذكر جمع ، ثم يؤتى ببعضه ، ويسكت عن ذكر باقيه لغرض للمتكلم ، ويسمّى طيّا.
وأنشد الزمخشري عليه قول جرير : [البسيط]
١٥٤٠ ـ كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم |
|
من العبيد ، وثلث من مواليها (١) |
وأورد منه قوله صلىاللهعليهوسلم : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب والنّساء ، وجعلت قرّة عيني في الصلاة» ذكر اثنين ـ وهما الطيب والنساء ـ وطوى ذكر الثالثة.
لا يقال إن الثالثة قوله صلىاللهعليهوسلم : «جعلت قرّة عيني في الصّلاة» (٢) لأنها ليست من دنياهم ، إنما هي من الأمور الأخروية.
وفائدة الطّيّ ـ عندهم ـ تكثير ذلك الشيء ، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال : وكثير سواهما.
وقال ابن عطية : «والأرجح ـ عندي ـ أن المقام ، وأمن الداخل ، جعلا مثالا مما في حرم الله ـ تعالى ـ من الآيات ، وخصّا بالذّكر ؛ لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجّة على الكفّار ؛ إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسّهم».
الوجه الثاني : أن يكون (مَقامُ إِبْراهِيمَ) عطف بيان ، قاله الزمخشري.
وردّ عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفا وتنكيرا ، فقال : وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين ، فلا يلتفت إليه ، وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فيتبعون النكرة نكرة ، والمعرفة معرفة ، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي. وأما البصريون ، فلا يجوز ـ عندهم ـ إلا أن يكونا معرفتين ، ولا يجوز أن يكونا نكرتين ، وكل شيء أورده الكوفيون مما يوهم جواز كونه عطف بيان جعله البصريون بدلا ، ولم يقم دليل للكوفيين ؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله ـ عند قوله : (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) [إبراهيم : ١٦] وقوله : (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) [النور : ٣٥] ، ولما أوّل الزمخشريّ مقام إبراهيم وأمن داخله ـ بالتأويل المذكور ـ اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع ـ وأجاب بما تقدم ، واعترض ـ أيضا ـ على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان
__________________
(١) ينظر البيت في ديوانه ص ٧٠٧ والبحر المحيط ٣ / ١٠ وروح المعاني ٤ / ٦ والكشاف ١ / ٤٤٧ وحاشية الشهاب ٣ / ٤٨ والدر المصون ٢ / ١٧٠.
(٢) أخرجه أحمد (٣ / ١٢٨ ، ٢٨٥) والنسائي (٧ / ٦١) والحاكم (٢ / ١٦٠) وأبو الشيخ في «أخلاق النبي صلىاللهعليهوسلم» (٩٨) وابن عدي (٣ / ١١٥١) وذكره الحافظ ابن حجر في «تلخيص الحبير» (٣ / ١١٦) وقال : رواه النسائي وإسناده حسن.