مولانا ، ويجب على العبد الانقياد لمولاه ؛ ولأنه أنعم ومنّ بوجوه الإنعام والامتنان ، فأوجد وأحيا وعلّم وهدى ، فعلى العبد أن يقابل تلك النّعم بأنواع الخضوع والانقياد ؛ ولأنه بكونه موجدا وخالقا وربّا يجب علينا عبادته ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، ويلزم من ذلك ألا نوجب لتلك الأفعال ثوابا ؛ لأن أداء الحق لمستحقه لا يوجب ، وثواب هذا إن سلّمنا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ، فكيف وهذا محال ؛ لأن الطاعات لا تحصل إلّا بخلق الله ـ تعالى ـ القدرة عليها ، والداعية إليها [ومتى حصلت القدرة والداعي كان] مجموعهما موجبا لصدور الطاعة ، فتكون تلك الطاعة إنعاما آخر.
وأيضا أنّه خلقنا من نفس واحدة ، ذلك أيضا يوجب علينا طاعته لأنّ ذلك يدلّ على كمال القدرة ؛ لأن ذلك لو كان بالطبيعة لما تولد عن الإنسان إلّا إنسان يشاكله (١) ويشابهه في الخلقة والطبيعة ، ولمّا اختلف الناس في الصفات والألوان ، دلّ على أن الخالق قادر مختار عالم ، يجب الانقياد لتكاليفه ؛ ولأن الله تعالى عقّب الأمر بالتقوى بالأمر بالإحسان إلى اليتامى والنساء والضّعفاء وكونهم من نفس واحدة باعث على ذلك بكونه [وذلك لأن الأقارب لا بد أن](٢) يكون بينهم مواصلة وقرابة ، وذلك يزيد في المحبة ، ولذلك يفرح الإنسان بمدح (٣) أقاربه ويحزن بذمهم فقدّم ذكرهم (٤) (٤) ، فقال : (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ليؤكد شفقة بعضنا على بعض.
فإن قيل : لم لم يقل : وبثّ منها الرّجال والنّساء.
فالجواب : لأن ذلك يقتضي كونهما مبثوثين من نفسيهما ، وذلك محال ، فلهذا عدل إلى قوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).
وقوله : «كثيرا» فيه وجهان (٥) :
أظهرهما : أنه نعت ل «رجالا».
قال أبو البقاء (٦) : ولم يؤنثه حملا على المعنى ؛ لأن «رجالا» بمعنى عدد أو جمع أو جنس كما ذكّر الفعل المسند إلى جماعة المؤنث لقوله تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) [يوسف : ٣٠].
والثاني : أنه نعت لمصدر تقديره : وبث منهما بثا كثيرا ؛ وقد تقدم أن مذهب سيبويه (٧) في مثله النصب على الحال.
__________________
(١) في أ : يقابله.
(٢) زيادة من الرازي لتمام المعنى.
(٣) في ب : أن يمدح.
(٤) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣٠.
(٤) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣٠.
(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٩٦.
(٦) ينظر إملاء ما منّ به الرحمان بهامش الفتوحات الإلهية ٢ / ١٨١ طبعة الحلبي والدر المصون الموضع السابق.
(٧) قال السيوطي في الهمع ٦ / ٢٨٦ : يجوز في هذا النوع حذف إحدى التاءين تخفيفا ، وهل المحذوف الأولى أو الثانية؟ قولان : أصحهما الثاني ، وهو مذهب سيبويه والبصريين ، وقال الكوفيون بالمحذوف ـ