أمّا الأول فنقل عن ابن عبّاس أنّه عليه الصلاة والسّلام كان إذا خرج إلى الجهاد لم يتخلّف عنه إلّا منافق أو صاحب علة. فلمّا بالغ الله تعالى في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون : والله لا نتخلّف عن شيء من الغزوات مع الرسول ، ولا عن سرية. فلمّا قدم الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ المدينة ، وأرسل السّرايا إلى الكفّار ، نفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة ؛ فنزلت هذه الآية (١). والمعنى : لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا كلهم إلى الجهاد ، بل يجب أن يصيروا طائفتين ، طائفة تبقى في خدمة الرسول ، وطائفة أخرى تنفر للجهاد ، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجا إلى الجهاد ، وأيضا كانت التّكاليف والشّرائع تنزل ، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيما بحضرة الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ يتعلّم تلك الشرائع والتكاليف ، ويبلغها للغائبين ، وبهذا الطريق يتمّ أمر الدّين ، وعلى هذا القول ففيه احتمالان :
أحدهما : أن تكون الطّائفة المقيمة هم الذين يتفقّهون في الدّين لملازمتهم الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، ومشاهدتهم التنزيل ؛ فكلما نزل تكليف وشرع ؛ عرفوه وحفظوه ، فإذا رجعت الطائفة النّافرة من الغزو ؛ أنذرتهم المقيمة ما تعلموه من التّكاليف والشرائع ، وعلى هذا فلا بد من إضمار ، والتقدير : فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة لتفقه المسلمين في الدين ، ولينذروا قومهم ، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى.
والاحتمال الثاني : أنّ التفقة صفة للطائفة النافرة قاله الحسن. والمعنى : فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين (٢) ، أي : أنهم إذا شاهدوا ظهور المسلمين على المشركين ، وأنّ العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين ؛ فيتبصروا ويعلموا أن ذلك بسبب أنّ الله تعالى خصهم بالنّصرة ، والتأييد وأنّ الله تعالى يريد إعلاء دين محمد ، وتقوية شريعته ؛ فإذا رجعوا إلى قومهم من الكفّار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر ، والفتح ، والظفر ، لعلهم يحذرون ؛ فيتركوا الكفر والنفاق.
وأما الثاني : وهو أن هذا حكم مبتدأ ؛ فتقريره أنّ الله تعالى ، لمّا بيّن في هذه السورة أمر الهجرة ، ثم أمر الجهاد ، وهما عبادتان بالسّفر ، بيّن أيضا عبادة التفقه من جهة الرّسول وله تعلق بالسفر ، فقال : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) إلى حضرة الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ليتفقهوا في الدّين ، بل ذلك غير واجب ، وليس حاله كحال الجهاد مع الرسول الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له.
ثم قال : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ) يعني من الفرق الساكنين في البلاد ، طائفة
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٧٩).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥١٦) بنحوه وذكره البغوي (٢ / ٣٣٩).