الأول : أنّ العبد لا يقصد إلا حصول الهداية ، فلمّا لم تحصل الهداية بل حصل الضّلال الذي لا يريده ، علمنا أنّ حصوله ليس من العبد ، بل من الله ـ تعالى ـ.
فإن قالوا : إنّه ظنّ أنّ هذا الضّلال هدى ، فلذلك أوقعه في الوجود فنقول : إقدامه على هذا الجهل ، إن كان بجهل سابق ، فذلك الجهل السابق يكون حصوله لسبق جهل آخر ويلزم التسلسل وهو محال ؛ فوجب أنّ هذه الجهالات والضّلالات لا بدّ من انتهائها إلى جهل أوّل ، وضلال أول ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد ؛ لأنّه يكرهه ويريد ضدّه ؛ فوجب أن يكون من الله ـ تعالى ـ.
الثاني : أنّه تعالى لمّا خلق الخلق يحبّون المال حبّا شديدا ، بحيث لا يمكنهم إزالة هذا الحبّ عن النّفس ألبتّة ، وكان حصول هذا الحبّ يوجب الإعراض عن خدمة الله وطاعته ، ويوجب التّكبّر عليه ، وترك اللّزوم ؛ فوجب أن يكون فاعل هذا الكفر ، هو الذي خلق الإنسان مجبولا على حبّ هذا المال والجاه.
الثالث : أنّ القدرة بالنّسبة إلى الضّدّين على السّويّة ، فلا يترجّح أحد الطّرفين على الآخر إلّا بمرجّح ، وذلك المرجّح ليس من العبد ، وإلا لعاد الكلام فيه ، فلا بدّ وأن يكون من الله ـ تعالى ـ ، وإذا كان كذلك ، كانت الهداية والضلال من الله ـ تعالى ـ.
وإذا عرفت هذا ، فنقول : أما حملهم اللّام على لام العاقبة فضعيف ؛ لأنّ موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ما كان عالما بالعواقب.
فإن قالوا : إنّ الله تعالى أخبره بذلك.
قلنا : فلمّا أخبر الله عنهم أنّهم لا يؤمنون ، كان صدور الإيمان منهم محالا ؛ لأنّ ذلك يستلزم انقلاب خبر الله كذبا ، وهو محال ، والمفضي إلى المحال محال.
وأمّا قولهم : يحمل قوله : «ليضلّوا» على أنّ المراد : لئلّا يضلّوا ، كما ذكره الجبائي ، فأقول : إنّه لمّا فسّر قوله ـ تعالى ـ : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩] نقل قراءة (فَمِنْ نَفْسِكَ) على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، ثم إنّه استبعد هذه القراءة ، وقال : إنها تقتضي تحريف القرآن ، وتغييره ، وتفتح تأويلات الباطنيّة ـ والباطنية هم الملاحدة ، ويقال لهم : القرامطة ، والإسماعيلية القائلون : بأنّ محمّد بن إسماعيل نسخ شريعة محمّد بن عبد الله ـ ويقال لهم أيضا : الناصرية أتباع محمد بن نصير ، وكان من غلاة الروافض القائلين بالألوهية على توهّم الدرزية أتباع بنشكين الدرزي ، كان من موالي الحاكم أرسله إلى وادي تيم الله بن ثعلبة ، فدعاهم إلى ألوهية الحاكم ويسمونه بالبازي ، والغلام ، ويحلفون به ، ويقال لهم : الحرمية والمحمرة ، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم ، ويقال لهم أيضا : الفداوية والرافضة ، وهم يحرفون كلام الله ـ تعالى ـ ورسوله عن مواضعه ، ومقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام ، ويظهرون لهذه الأمور حقائق يعرفونها ، فيقولون : إن الصلوات الخمس معرفة