وهم أعزّ وأمنع من ذلك ـ! ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (١).
وثانيها : روي أنه ـ عليهالسلام ـ لما خطّ الخندق عام الأحزاب (٢) ، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون ، خرج من وسط الخندق صخرة كالتل العظيم ، لم تعمل فيها المعاول.
فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخذ المعول من سلمان ، فلما ضربها صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها ، كأنه مصباح في جوف ليل مظلم ، فكبر ، وكبر المسلمون ، وقال عليهالسلام : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها قصور صنعاء ، ثم ضرب الثالثة فقال : أخبرني جبريل ـ عليهالسلام ـ أن أمتي ظاهرة على كلها ، فأبشروا ، فقال المنافقون : ألا تعجبوا من نبيكم ، يعدكم الباطل ، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم ، وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا ، فنزلت هذه الآية (٣).
وثالثها : قال الحسن : إن الله ـ تعالى ـ أمر نبيه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ، ويردّ ذل العرب عليهما ، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء ، وهكذا منازل الأنبياء ـ إذا أمروا بدعاء استجيب دعاؤهم (٤).
وقيل : نزلت دامغة لنصارى نجران ، في قولهم : إن عيسى هو الله ، وذلك أن هذه الأوصاف تبين ـ لكل صحيح الفطرة ـ أن عيسى ليس فيه شيء منها.
قال ابن إسحاق : أعلم الله ـ تعالى ـ في هذه الآية ـ بعنادهم وكفرهم ، وأن عيسى
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٠٠) عن قتادة وانظر تفسير الفخر الرازي (٨ / ٤).
(٢) غزوة الخندق : في شوال سنة خمس من الهجرة خرجت قريش وغطفان في عشرة آلاف مقاتل ، بعد أن دفعهم نفر من اليهود إلى ذلك ، وما أن علم الرسول بخروجهم ، حتى ضرب الخندق على المدينة بمشورة سلمان الفارسي ، وأقبلت قريش ، ومن تبعها «من كنانة» وأهل «تهامة» ، حتى نزلت بمجتمع الأسيال ، ونزلت غطفان ، ومن تبعهم بجانب أحد ، وخرج الرسول عليهالسلام في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فجعل ظهره إلى سهل «سلع» ، وضرب هنا لك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وانضم بنو قريظة إلى جيش الأحلاف ، فعظم بذلك البلاء على المسلمين ، وبينما المسلمون على ذلك ؛ إذا بالخلاف يدبّ بين جيش الكفار بوساطة «نعيم بن مسعود الغطفاني» ، وتهبّ عاصفة شديدة فتقتلع الخيام ، وتقلب قدور الطعام ، وتهدم المعكسر ، فيرتحلون جميعا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، ويكفي الله المؤمنين شر القتال.
(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ١٨٦) وعزاه لابن سعد وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي في «الدلائل» من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده.
(٤) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ٤ ـ ٥) عن الحسن.