الثاني : قال أبو مسلم : إنّ زكريا لما طلب من الله آية تدل على علوق الولد ، قال تعالى : آيتك أن تصير مأمورا بأن لا تكلم الناس ثلاثة أيام بلياليها مع الخلق ، وأن تكون مشتغلا بالذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، معرضا عن الخلق والدنيا ؛ شكرا لله ـ تعالى ـ على إعطاء مثل هذه الموهبة ، فإن كانت لك حاجة دلّ عليها بالرمز ، فإذا أمرت بهذه الطاعة فقد حصل المطلوب.
الثالث : قال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام ؛ عقوبة لسؤاله الآية ـ بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة ـ فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام.
وقوله : (أَلَّا تُكَلِّمَ) «أن» وما في حيّزها في محل رفع ؛ خبرا لقوله : (آيَتُكَ) أي آيتك عدم كلامك الناس. والجمهور على نصب «تكلّم» بأن المصدرية.
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه (١) ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون «أن» مخففة من الثقيلة ، واسمها ـ حينئذ ـ ضمير الشأن محذوف والجملة المنفيّة بعدها في محل رفع ، خبرا ل «أن» ومثله : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ) [طه : ٨٩] وقوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [المائدة : ٧١] ووقع الفاصل بين «أن» والفعل الواقع خبرها حرف نفي ، ولكن يضعف كونها مخفّفة عدم وقوعها بعد فعل يقين.
والثاني : أن تكون «أن» الناصبة حملت على «ما» أختها ، ومثله : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] و «أن» وما في حيزها ـ أيضا ـ في محل رفع ، خبرا ل «آيتك».
قوله : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) الصحيح أن هذا النحو ـ وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميع الحدث الواقع فيه ـ منصوب على الظرف ، خلافا للكوفيين ، فإنهم ينصبونه نصب المفعول به.
وقيل : وثم معطوف محذوف تقديره ثلاثة أيام ولياليها ، فحذف ، كقوله تعالى : (تَقِيكُمُالْحَرَّ) [النحل : ٨١] ونظائره ؛ يدل على ذلك قوله ـ في سورة مريم ـ (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) [مريم : ١٠] وقد يقال : إنه يؤخذ المجموع من الآيتين ، فلا حاجة إلى ادعاء حذف ؛ فإنه على هذا التقدير الذي ذكرتموه ـ يحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرى : ثلاث ليال وأيامها.
قوله : (إِلَّا رَمْزاً) فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام ، إذ الرمز الإشارة بعين ، أو حاجب أو نحوهما ، ولم يذكر أبو البقاء غيره.
وبه بدأ ابن عطية مختارا له ، فإنه قال : «والمراد بالكلام ـ في الآية ـ إنما هو النطق
__________________
(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٣٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٧١ ، والدر المصون ٢ / ٨٨.