فأراد الصباغ أن يغيب يوما لبعض مهمّاته ، فقال له : ها هنا ثياب مختلفة ، وقد جعلت على كل واحد علامة معينة ، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب ، فطبخ عيسى صلىاللهعليهوسلم جبّا واحدا ، وجعل الجميع فيه ، وقال : كوني بإذن الله كما أريد ، فرجع الصباغ ، وسأله ، فأخبره بما فعل ، فقال : أفسدت عليّ الثياب ، قال : قم فانظر ، فكان يخرج ثوبا أخضر ، وثوبا أصفر ، وثوبا أحمر ، ـ كما كان يريد ـ إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به ، وهم الحواريّون (١).
قال القفّال : ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السّمك ، وبعضهم من القصّارين ، وبعضهم من الصبّاغين ، والكل سموا بالحواريين ؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى ـ عليهالسلام ـ وأعوانه ، والمخلصين في محبته وطاعته.
قوله : (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي : أنصار أنبيائه ؛ لأن نصرة الله ـ في الحقيقة ـ محال. (آمَنَّا بِاللهِ) هذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى : أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله ؛ لأجل أن آمنا به ؛ فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله ، والذّبّ عن أوليائه ، والمحاربة لأعدائه ، ثم قالوا : (وَاشْهَدْ) يا عيسى (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي : منقادون لما تريد منا من نصرتك.
ويحتمل أن يكون ذلك إقرارا منهم بأن دينهم الإسلام ، وأنه دين كلّ الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ ولما أشهدوا عيسى على إيمانهم تضرّعوا إلى الله ، وقالوا : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) عيسى (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق.
وقال عطاء : مع النبيين ؛ لأن كل نبي شاهد أمته ، وقد أجاب الله دعاءهم ، وجعلهم مثل الأنبياء والرسل وأحيوا الموتى كما صنع عيسى ـ عليهالسلام ـ.
قال ابن عباس : مع محمد وأمته ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣].
وقيل : اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك في قولك : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨]. قوله : (مَعَ الشَّاهِدِينَ) حال من مفعول (فَاكْتُبْنا) وفي الكلام حذف ، أي : مع الشاهدين لك بالوحدانية. قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) من باب المقابلة ، أي : لا يجوز أن يوصف ـ تعالى ـ بالمكر إلّا لأجل ما ذكر معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به. هكذا قيل ، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ) [الأعراف : ٩٩] والمكر في اللغة أصله الستر ، يقال : مكر اللّيل ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه.
__________________
(١) ينظر المصدر السابق.