والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ، ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز ، والتواتر إذا انتهى في حد الأمر إلى الجمع القليل ، لم يكن مفيدا للعلم.
والجواب عن السادس : أن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه كان مسلما ، وقبل ذلك عن عيسى عليهالسلام جاز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة.
وبالجملة فالأسئلة المذكورة أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوه ، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلىاللهعليهوسلم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع عن الله.
قوله : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) في الآخرة (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من الدّين ، وأمر عيسى عليهالسلام ؛ التفات من غيبة إلى خطاب ؛ وذلك أنه ـ تعالى ـ قدّم ذكر من كذّب بعيسى وافترى عليه ـ وهم اليهود ـ وقدّم ـ أيضا ـ ذكر من آمن به ـ وهم الحواريون رضي الله عنهم ـ وقفّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل متّبعي عيسى فوق مخالفيه ، فلو جاء النظم على هذا السياق ـ من غير التفات ، لكان : ثم إليّ مرجعهم ، فأحكم بينهم فيما كانوا ، ولكنه التفت إلى الخطاب ؛ لأنه أبلغ في البشارة ، وأزجر في النذارة. وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة ـ أعني : إني متوفّيك ورافعك ومطهّرك وجاعل ـ هذا الترتيب معنى حسن جدّا ؛ وذلك أنه ـ تعالى ـ بشّره ـ أولا ـ بأنه متوفيه ، ومتولّي أمره ، فليس للكفار المتوعّدين له بالقتل عليه سلطان ولا سبيل ، ثم بشّره ـ ثانيا ـ بأنه رافعه إليه ـ أي : إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته ، ومحل عبادته ؛ ليسكن فيها ، ويعبد ربّه مع عابديه ـ ثم ـ ثالثا ـ بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به ، ثم رابعا ـ برفعة تابعيه على من خالفهم ؛ ليتمّ بذلك سروره ، ويكمل فرحه. وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره ؛ لأن ـ الإنسان بنفسه أهم ، وبشأنه أعنى ، كقوله : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] وفي الحديث : «ابدأ بنفسك ثمّ بمن تعول»(١).
قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) في محل هذا الموصول قولان :
أظهرهما ـ وهو الأظهر ـ : أنه مرفوع على الابتداء ، والخبر الفاء وما بعدها.
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدّر ، على أن المسألة من باب الاشتغال ، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره ، وهذا وجه ضعيف ؛ لأن «أمّا» لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يلها إلا المبتدأ
__________________
(١) أخرجه البخاري كتاب النفقات باب وجوب النفقة ... رقم (٥٣٥٥) ومسلم كتاب الزكاة (٩٥ ، ٩٧ ، ١٠٦) والنسائي (٥ / ٦٩) وأحمد (٢ / ٤ ، ٩٤ ، ١٥٢) والبيهقي (١ / ١٩٨ ، ٤ / ١٨٠ ، ١٨٢) والدارمي (١ / ٣٨٩) وابن أبي شيبة (٣ / ٢١٢) وابن الجارود (٧٥١) والحميدي (١٠٥٨).