بينهما فرق [كبير](١) ـ بعد أن يجتمعا في وصف واحد».
وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم ، فقال لهم : لم تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنه لا أب له.
قال : فآدم أولى ؛ لأنه لا أبوين له ، قالوا : فإنه كان يحيي الموتى؟ قال : فحزقيل أولى ؛ لأن عيسى أحيى أربعة نفر ، وحزقيل أحيى ثمانية آلاف ، قالوا : فإنه كان يبرىء الأكمه والأبرص.
قال : فجرجيس أولى ؛ لأنه طبخ ، وأحرق ، وخرج سالما.
قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) اختلفوا في المقول له : كن ، فالأكثرون على أنه آدم ـ عليهالسلام ـ وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية ؛ لأنه إنما يقول له : كن قبل أن يخلقه لا بعده ، وهاهنا يقول : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ).
والجواب : أن الله ـ تعالى ـ أخبرنا ـ أولا ـ أنه خلق آدم من غير ذكر ، ولا أنثى ، ثم ابتدأ أمرا آخر ـ يريد أن يخبرنا به ـ فقال : إني مخبركم ـ أيضا بعد خبري الأول ـ أني قلت له : كن فكان ، فجاء «ثمّ» لمعنى الخبر الذي تقدم ، والخبر الذي تأخر في الذكر ؛ لأنّ الخلق تقدم على قوله : «كن». وهذا كما تقول : أخبرك أنّي أعطيك اليوم ألفا ثم أخبرك أني أعطيتك أمس ألفا ، ف «أمس» متقدم على «اليوم» وإنما جاء ب «ثمّ» ؛ لأنّ خبر «اليوم» متقدّم خبر «أمس» ؛ حيث جاء خبر «أمس» بعد مضيّ خبر «اليوم» ومثله قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] ـ وقد خلقنا بعد خلق زوجها ، ولكن هذا على الخبر دون الخلق ؛ لأنّ التأويل : أخبركم أني قد خلقتكم من نفس واحدة ـ ؛ لأن حواء قد خلقت من ضلعه ثم أخبركم أني خلقت زوجها منها.
ومثل هذا قول الشاعر : [الخفيف]
١٤٩٠ ـ إنّ من ساد ثمّ ساد أبوه |
|
ثمّ قد ساد بعد ذلك جدّه (٢) |
ومعلوم أن الأب متقدّم له ، والجدّ متقدم للأب ، فالترتيب يعود إلى الخبر لا إلى الوجود ، كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧] فكذا قوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) أي : صيّره خلقا سويّا ، ثم إني أخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له : كن. فالتراخي في الخبر ، لا في هذا المخبر عن ذلك المخبر.
ويجوز أن يكون المراد أنّه خلقه قالبا من تراب ، ثم قال له : كن بشرا.
__________________
(١) في أ : ما.
(٢) البيت لأبي نواس ينظر ديوانه ١ / ٣٥٥ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٣ ، ٤٠ ، ٤١ والدرر ٦ / ٩٣ ، والجنى الداني ص ٤٢٨ ، وجواهر الأدب ص ٣٦٤ ، ورصف المباني ص ١٧٤ ، ومغني اللبيب ١ / ١١٧ والدر المصون ١ / ١١٩.