الخامس : خلق الإنسان من تراب ، فيكون مطفئا لنار الشهوة ، والغضب ، والحرص ؛ فإن هذه النيران لا تنطفىء إلا بالتراب ، وإنما خلقه من الماء ليكون صافيا ، تتجلّى فيه صور الأشياء ، ثم إنه ـ تعالى ـ فرج بين الأرض والماء ليمتزج اللطيف بالكثيف ، فيصير طينا ، وهو قوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : ٧١] ثم إنه في المرتبة الرابعة قال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] والسلالة بمعنى المسلولة قال : فعالة بمعنى مفعولة ؛ لأنها هي التي من ألطف أجزاء الطين ، ثم إنه في المرتبة الخامسة جعله طينا لازبا ، فقال: (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) [الصافات : ١١] ثم إنّه في المرتبة السادسة أثبت له ثلاثة أنواع من الصفات :
أحدها : أنّه صلصال ، والصلصال : اليابس الذي إذا حرّك تصلصل ، كالخزف الذي يسمع من داخله صوت.
الثاني : الحمأ ، وهو الذي استقر في الماء مدّة ، وتغيّر لونه إلى السّواد.
الثالث : تغير رائحته ، وهو المسنون ، قال تعالى : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) [البقرة : ٢٥٩] ، أي : لم يتغيّر.
قوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) يجوز أن تكون هذه الجملة مستقلة برأسها والمعنى أنّ الحقّ الثابت الذي لا يضمحلّ هو من ربك ، ومن جملة ما جاء من ربك قصة عيسى وأمه ، فهو حقّ ثابت.
ويجوز أن يكون «الحقّ» خبر مبتدأ محذوف أي : ما قصصنا عليك من خبر عيسى وأمه ، وحذف لكونه معلوما. و (مِنْ رَبِّكَ) على هذا ـ فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال فيتعلق بمحذوف.
والثاني : أنه خبر ثان ـ عند من يجوز ذلك وتقدم نظير هذه الجملة في البقرة.
وقال بعضهم : «الحق رفع بإضمار فعل ، أي : جاءك الحق».
وقيل : إنه مرفوع بالصفة ، وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : من ربك الحق.
والامتراء : الشك. قال ابن الأنباريّ : هو مأخوذ من قول العرب : مريت الناقة والشاة ـ إذا حلبتهما ـ فكأن الشاك يجتذب بشكّه شرّا ـ كاللبن الذي يجتذب عند الحلب.
ويقال قد مارى فلان فلانا ـ إذا جادله ـ كأنه يستخرج غضبه ، قال ابن عبّاس لعمر رضي الله عنها : لا أماريك أبدا.
ومنه قيل : الشكر يمتري المزيد ؛ أي : يجلبه.
فصل
هذا الخطاب ـ في الظاهر ـ مع النبي صلىاللهعليهوسلم واختلف في تأويله :