وقال : إن ذلك كان حلالا لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، إلا أن يعقوب حرّمه على نفسه ، لسبب من الأسباب ، وبقيت تلك الحرمة في أولاده ، فأنكر اليهود ذلك ، وقالوا : ما نحرمه اليوم كان حراما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمرهم النبي صلىاللهعليهوسلم بإحضار التوراة ، وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم ، فعجزوا عن ذلك ، وافتضحوا ، فظهر كذبهم.
الوجه الثالث : أنه ـ تعالى ـ لما أنزل قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام : ١٤٦] ، قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] فدل ذلك على أنه إنما حرم على اليهود هذه الأشياء ـ جزاء لهم على بغيهم ـ وأنه لم يكن شيء من الطعام حراما ، غير الذي حرم إسرائيل على نفسه ، فشقّ ذلك على اليهود من وجهين :
أحدهما : أن ذلك يدل على تحريم هذه الأشياء بعد الإباحة ، وذلك يقتضي النسخ ، وهم ينكرونه.
والثاني : أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال ، فلما شقّ ذلك عليهم من هذين الوجهين ، أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجدّدة ، وزعموا أنها كانت محرّمة أبدا ، فطالبهم النبيّ بآية من التوراة تدل على صحّة قولهم فعجزوا وافتضحوا فهذا وجه النظم وسبب النزول.
فصل
قال الزمخشري : «كلّ الطّعام» كل المطعومات ، أو كل أنواع الطعام.
واختلف الناس في اللفظ المفرد المحلّى بالألف واللام ، هل يفيد العموم أم لا؟
فذهب قوم إلى أنه يفيده لوجوه :
الأول : أنه ـ تعالى ـ أدخل لفظ «كلّ» على لفظ «الطّعام» فلولا أن لفظ «الطّعام» قائم مقام المطعومات ، وإلا لما جاز ذلك.
والثاني : أنه استثنى ما حرم إسرائيل على نفسه ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ : «الطّعام» ، وإلا لم يصحّ الاستثناء ، ويؤيده قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ١ ـ ٣].
الثالث : أنه ـ تعالى ـ وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع ، فقال : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) [ق : ١٠] ، فعلى هذا لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره الزمخشريّ.
ومن قال : إنه لا يفيد العموم ، يحتاج إلى الإضمار.